لبنى الخميس
لازلت أذكر خطواتها الثقيلة في إحدى أجنحة العناية المركزة، صوت الأجهزة ينخر في أذني، وبرودة المكان لا تطفئ حرارة الانتظار. دخلت الطبيبة الهندية إلى غرفة والدي وهي تحمل أوراقاً وأسئلة، أمامكم دقائق لتقرروا: هل نستعين بجهاز التقويم الكهربائي الذي يرسل شحنات كهربائية صاعقة وشديدة الألم في حال اختل مسار نبضات القلب أم نترك روحه ترحل بسلام؟ هل نمده بأداة جديدة في معركة صراعه على البقاء وهو المريض الشجاع الذي قاتل المرض بضراوة.. أم نجرده منها تعاطفاً مع رحلته الطويلة والمريرة مع الألم.. كنت لأول مرة أمام اختيار من هذا النوع.. مربك.. صعب.. ومصيري!
وبالرغم من مرارة الاختيار أحياناً.. وخطورة تبعاته إلا أننا نتمسك كبشر بحقنا الإنساني باتخاذه، الباحثة في علم الاختيار شينا لاينجر أجرت دراسة على الآباء والأمهات في أمريكا وفرنسا الذين تعرضوا لمعاناة مشابهة، إذ تم سؤالهم هل نزيل جهاز التنفس الاصطناعي عن ابنكم مما قد يعرضه للوفاة بغضون ساعات قليلة.. أم نبقيه لعدة أيام، وإن نجا سيظل في حالة عجزٍ تام، غير قادر على التحدث، المشي، أو التواصل مع الآخرين. جميعهم اختاروا إزالة الجهاز عن أبنائهم وعدم تعرضيه لحياة مبتورة ومشوهة بهذا القدر.. ولكن المفارقة كانت في تبعات هذا الاختيار المفصلي وسرعة التأقلم مع الخسارة. ففي فرنسا الأطباء هم من يقررون كيف ومتى سيُزال جهاز التنفس الاصطناعي، بينما في أمريكا القرار النهائي يعود إلى أهل المريض.
وجدوا الآباء الأمريكيين بعد مرور أكثر من عام مازالوا يعانون من الآثار السلبية لهذا القرار مقارنة بنظرائهم الفرنسيين، بل كان يردد البعض منهم بغصة.. ماذا لو شفي؟ وأكد البعض الآخر «شعرت بأني لعبت دوراً في إعدام ابني» أو سرقة فرصته الأخيرة للنجاة؟
ولكن المفاجأة كانت حينما سُئل الآباء الأمريكيون إذا كانوا يفضلون لو اتخذ الأطباء عنهم هذا القرار؟ جميعهم رفضوا إذ لم يتصوروا منح شخص غريب اتخاذ قرار بهذا القدر من الخصوصية رغم ما خلفه من ألم وغضب وذنب.. هل هو اختيار الوهم.. أم وهم الاختيار؟
جميعنا مررنا بخيارات صعبة.. حاسمة.. ومفصلية.. تضع توقيعها على فصول حكايتنا إلى الأبد.. فليست كل الخيارات بسهولة «اختر الإجابة الصحيحة من بين الخيارات التالية».. أو ببساطة وقوفك أمام رفوف بقالة الحي لتختار أي نوع كاتشاب أو ماسترد ستضيفه لساندويشة العشاء.. فبحسب الكاتب وليام غلاسير في كتابه نظرية الاختيار تتراوح دوافع الناس أثناء عملية الاختيار بين 6 دوافع: الحب، الحرية، الانتماء، السلطة، البقاء، والمتعة.
فنحن نختار أن نصفح بدل أن نقسو لأننا نحب، ونقرر أن نستقيل من وظيفة مستقرة وذات وجاهة اجتماعية لنبدأ مشروعنا الخاص بحثاً عن الحرية بالربح والخسارة وإذن الإجازة وموعد الاستيقاظ، ونرتدي قميص فريقنا المفضل أحياناً دوناً عن بقية خيارات الخزانة لنعبر عن انتمائنا الصادق إلى جمهوره، ونختار التمسك بذات المنصب رغم ما يحمله من ملل ورتابة لنروي تعطّشنا للسلطة، ونصرف مدخرات سنوات من العمل المضني في سبيل أوقات ممتعة نقضيها في مولات دبي وساحات أسطنبول وشوارع لندن ونيويورك، ونختار أن ننهض ونرمم انكسارتنا بعد فشل مشروع، وانتهاء علاقة، وفقد غالٍ بل نتجرع مرارة الدواء رغبة في البقاء.
وبالرغم من أننا نقوم بعشرات الخيارات كل يوم، إلا أن عملية الاختيار تظل محاطة بالغموض ومشبعة بالعديد من المعتقادات غير الدقيقة.. كأن نعتقد بأننا نقوم بخيارات فردية مجردة من سياق المكان والزمان.
في المقال القادم سأتناول بعض المعتقدات غير الدقيقة عن عالم الاختيار.