د.عبد الرحمن الحبيب
تشن القيادة السعودية حرباً تاريخية لا هوادة فيها ضد الفساد، كتب عنها الكثير وشاعت ثقافة المحاسبة بشكل رائع، إلا أن القليل كتب عن طرق تجنب البيئة الحاضنة للفساد وهي بحاجة لمزيد من التناول والتوعية بها فهي لا تقل أهمية عن معالجة الداء لأنها تستهدف الظروف والعوامل التي تساعد على الفساد.
لا شك أن القيادة السعودية تعي ذلك وهي تعمل على رفع كفاءة أداء الهياكل الإدارية وطرق المراقبة والمحاسبة وتحسين أساليب الشفافية والحوكمة لتجنب الفساد، ومن المهم أن يترادف معها التوعية، فهناك أنواع ودرجات من الفساد وهناك أسباب له، ومن ثم فهناك طرق وأساليب لتلافيه أو على الأقل تقليصه للحدود الدنيا.
الجميع يعرف أن الفساد سلوك غير أخلاقي من شخص يعهد إليه مسؤولية عامة فيعمل على تحقيق مكاسب شخصية بصفته الرسمية كالرشوة والاختلاس؛ إلا أن من أخطر أنواع الفساد ما يطلق عليه الفساد المنظم وهو الذي يرجع إلى الضعف الهيكلي للمنظمة أو خلل في الإجراءات الإدارية بحيث يمكن للمسؤول أن يتصرف بشكل فاسد من داخل النظام.. مثل الأنظمة غير الواضحة التي تتيح للمسؤول الفاسد بأن يفسرها بطريقة تخدم مصالحه الخاصة، وبالتالي يمكنه الإفلات من المحاسبة.. ومثل الإجراءات الروتينية المعقدة جداً فلا يتوفر فيها لمعظم الناس بدائل إلا التعامل مع المسؤولين الفاسدين.
لذا فإن البروفيسور دانيال كوفمان، الذي يدير الحوكمة ومكافحة الفساد في البنك الدولي، وسع المفهوم ليشمل «الفساد القانوني» وهو إساءة استخدام السلطة ضمن حدود القانون؛ على الرغم من أن الفساد غير قانوني، إلا أنها عمليات فاسدة ولكنها محمية بموجب إطار قانوني، أو على الأقل لا يحظرها القانون.
أما العوامل المؤدية للفساد فهي حسب دراسة استقصائية (ديمانت وآخرون، 2017) ثمانية عشر عاملاً.. اختار منها هنا: الاحتكار، انخفاض المشاركة المدنية، ارتفاع البيروقراطية وعدم كفاءة الهياكل الإدارية، انخفاض مستويات اللا مركزية الحكومية والحجم المتضخم للحكومة. أما العوامل التي تشجع على الفساد المنظم، فهي: الحوافز المتضاربة، السلطات التقديرية، القوى الاحتكارية، الافتقار للشفافية، الدخل المنخفض، وثقافة الإفلات من العقاب.
إساءة استعمال السلطة التقديرية يقصد بها إساءة استخدام المسؤول لصلاحيته في تفسير القرارات لمصالح خاصة، ومن الأمثلة على ذلك قيام المحقق بإلغاء دعوى جنائية بشكل غير سليم أو مسؤول جمركي باستخدام سلطته التقديرية للسماح بفسح مادة محظورة. وثقافة الإفلات من العقاب هي أيضاً تشكل سبباً رئيسياً للفساد، كما وجدت كثير من الدراسات، إذ أوضح كليتغارد من جامعة كاليفورنيا أن الفساد سيحدث إذا كان الكسب من الفساد أكبر كثيراً من احتمالية الوقوع في العقوبة والمحاكمة، لكن درجة الفساد ستتأثر بدرجة الاحتكار ودرجة الشفافية والمساءلة إضافة للعقوبات المنخفضة المقترنة باحتمال ضعيف للقبض على الفاسدين..
وما يزيد من انتشار الفساد، وفقاً لدراسة كوستانتين ستيفان (2012)، أن الناس قد يميلون ثقافياً إلى إهمال الأخلاق والالتزام الأخلاقي تجاه الفساد. ويرى ستيفان إن البعد الأخلاقي له مكون داخلي وخارجي. الداخلي هو العقل أما الخارجي فهي الظروف الخارجية كالفقر، وعدم كفاية الأجور، وظروف العمل غير الملائمة، والإجراءات غير القابلة للعمل أو المعقدة جداً التي تضعف معنويات الناس وتتيح لهم البحث عن حلول «بديلة».
كيف نتجنب الفساد؟ وفقا لكليتغارد، فإن الحد من الاحتكار والسلطة التقديرية لدى الأفراد، والوصول لدرجة عالية من الشفافية من خلال الرقابة المستقلة من جانب المنظمات غير الحكومية ووسائط الإعلام بالإضافة إلى حصول الجمهور على المعلومات الموثوقة يمكن أن يحد من المشكلة. وقد تناول دجانكوف وغيره من الباحثين الدور المهم الذي تلعبه المعلومات في مكافحة الفساد بأدلة من البلدان النامية والمتقدمة على السواء، إذ يرتبط الكشف عن المعلومات المالية للمسؤولين الحكوميين للجمهور بتحسين المساءلة المؤسسية والقضاء على سوء التصرف. كما يساعد على ذلك وضع استراتيجيات للحوكمة الجيدة من خلال إشراك المواطنين بمحاربة الفساد.
ومن هنا لا بد من تعزيز مشاركة المجتمع المدني.. ويشكل إنشاء آليات من القاعدة إلى القمة وتشجيع مشاركة المواطنين وتشجيع قيم النزاهة والمساءلة والشفافية عناصر حاسمة لمكافحة الفساد. فمثلاً أدى تنفيذ مراكز ألاك الأوروبية «وهي مراكز المرافعة والمشورة القانونية» إلى زيادة كبيرة في عدد شكاوى المواطنين من أعمال الفساد التي تم تلقيها وتوثيقها، ومن ثم المساعدة في الحد منها.
ولا ننسى الدور المهم الذي يقوم به الإنترنت في هذا المجال، فإذا كانت الشفافية تخلق مشاركة للناس عن طريق الإعلام، فالإنترنت وسع دورها، حتى صار بعض الباحثين يرى أنها أصبحت أهم عناصر الديمقراطية التشاركية أكثر من الانتخابات التي تحصل كل بضع سنوات، لأنها تسهل بشكل يومي معرفة ما يتم إقراره من تشريعات وإجراءات تنفيذها، ومن ثم تمنح الناس القدرة على المساءلة والاقتراح (دراسة سوزان مولر وآخرون).
الخلاصة أن أهم وسائل تجنب الفساد هي الشفافية والحوكمة والمشاركة الشعبية، وتحسين كفاءة الهياكل الإدارية، وعدم منح المسؤولين سلطات تقديرية واسعة لتفسير الأنظمة وذلك بوضع أنظمة واضحة.. إضافة إلى تخفيف الإجراءات البيروقراطية المعقدة التي تضطر الناس لاستخدام وسائل غير نظامية..