د.عبدالله مناع
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.. وظهور قوي عسكرية عظمى على مسرح الأحداث (الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفييتي)، واختفاء قوى عسكرية كانت لها الكلمة والغلبة عند بداية الحرب -بريطانيا وفرنسا-.. أخذ يتم الترويج لـ(مقولة): إنه سيجري تقسيم (المقسَّم)!! وهم يعنون بذلك الدول العربية.. التي جرى تقسيمها أثناء الحرب العالمية الأولى وما بعدها، وأنه سيعاد تقسيمها ثانية.. فتصبح مصر مصرين، والسودان سودانين، و(العراق) ثلاث دول.. وهكذا بقية الدول العربية.
ومرت الأيام والسنون، وانطوى القرن العشرين بخيره وشره ونكباته.. ولم يتحقق ذلك إلا مؤخراً، ولأول مرة في يناير من عام 2011م.. بـ(الاستفتاء) الذي اقتيدت له حكومة الرئيس عمر البشير على (الانفصال) بين جنوب السودان وشماله في الخامس من يناير عام 2011م.. بمشاركة مواطني جنوب السودان دون شماله على (الانفصال) من عدمه!؟ والذي تحقق في النهاية.. بداية بفضل الدكتور جون قرنق -رئيس ما يسمى بالحركة الشعبية لتحرير السودان- فـ(سيلفا كير) نائب الرئيس السوداني عمر البشير نهاية، وبفضل الجهود والضغوط الأمريكية الدؤوبة: العلنية والسرية طوال الوقت.. والجهود والضغوط والمعونات السرية التي كانت تقدمها إسرائيل.. ليبكيه الآن طرفا الانفصال: في الشمال وفي الجنوب، ولتسعد به إسرائيل وحدها.
ولقد كان مقدراً أن يتكرر ذلك -على نحو أو آخر- في (مصر) مع إطلالة القرن الواحد والعشرين أيضاً.. سواء عن طريق: فروع منظمات المجتمع المدنى الأمريكي في مصر.. ذات الحظوة لدى الولايات المتحدة الأمريكية: دعماً وعوناً وإغواءً وإغراءً، أو عن طريق رفع عصا: انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكلها مصر.. والذي يتطلب معها فصل مصر (القبطية) عن مصر الإسلامية حماية لحقوق أقباط مصر المنتهكة.. لكن جاءت ثورة الثلاثين من يونية الوطنية المصرية الخالصة.. بكل زخمها وجيشها أنها، وبدعمها العربي غير المحدود عام 2013م.. لتقضي على تلك الأوهام أو الأحلام الأمريكية إلى الأبد، وتبقى مصر.. في قلب وطنيتها الخالصة.. رافعة شعارها الجليل والجميل: (الدين لله.. والوطن للجميع).
لكن الظروف السياسية والعسكرية.. أصبحت مواتية في (العراق) بعد الغزو الأمريكي الإجرامي عليه عام 2003م، وتأسيس (مجلس الحكم العراقي) في 31 يوليه 2003م.. الذي أصبح بموجبه (رئيس الحزب الديموقراطي الكردستاني) الطموح كردياً: مسعود البرزاني.. عضواً فيه، وهو ما فتح الأبواب لطموحه السياسي غير المحدود.. ليرشح نفسه عبر البرلمان الكردي في محافظة أربيل لـ(انتخابه) لرئاسة الإقليم.. حيث جرى في 12 يونية 2005م، ليصبح أول رئيس لـ(إقليم كردستان العراق) من قبل المجلس الوطني الكردستاني العراقي، وهو ما أطلق يده وأحلامه.. إلى عنان السماء، وجعله يبادر بزيارة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن -داعمه الأول.. وداعم حركته الانفصالية عن الوطن الأم-.. فـ(توني بلير).. فـ(البابا).. فـ(بيرلسكوني) رئيس وزراء إيطاليا وعدد من القادة والرؤساء.. بل وجعله يتصرف إجمالاً ليس كـ(رئيس لإقليم كردستان العراق) ولكن كـ(رئيس لجمهورية كردستان).. بعد انفصالها عن العراق فيما لو أنه حدث، والذي كان يخطط له على مهل. فقد نصب (علماً) كردياً غير العلم العراقي، واعتمد سلاماً وطنياً غير السلام العراقي، ليدعو في الشهر الماضي، مع اقتراب نهاية ولايته الثانية كـ(رئيس لإقليم كردستان العراق).. إلى (استفتاء) كردي على (الانفصال) عن العراق.
* * *
ورغم عدم دستورية هذا الاستفتاء.. ومعارضة العاصمة (بغداد) والبرلمان العراقي والحكومة الاتحادية له إلى حد إيقاف الرحلات الجوية من وإلى مطاري (كردستان).. إلا أنه أصر على أجراء الاستفتاء، الذي كانت نتيجته وكما يريدها.. هي تأييد (الانفصال) عن الوطن الأم (العراق).. تمهيداً لإقامة الجمهورية الكردية مجدداً، ولكن مع تخلي الأمريكيين عن دعم هذا الاستفتاء، ومعارضة العواصم المجاورة له في -دمشق وأنقرة وطهران- كان يتأكد له أن لا أمل في (الانفصال).. وأن (حق تقرير المصير) للأكراد المنتشرين في كل من العراق وسوريا وتركيا وإيران.. عليهم أن ينتظروا إلى مرحلة أخرى قد تكون مواتية.. لتعلن المحكمة الاتحادية العراقية -العليا-: بطلان.. هذا الاستفتاء.. لـ(عدم وجود نص في الدستور العراقي - يجيز انفصال أي مكون بالبلاد): فـ(المادة الأولى من الدستور العراقي تؤكد وحدة العراق)، كما (تُلزم السلطات الاتحادية كافة.. بالمحافظة على هذه الوحدة)، وقد نصت على أن (جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة، ذات سيادة كاملة، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي ديموقراطي)، و(هذا الدستور.. ضامن لوحدة العراق)، لتعلن حكومة كردستان العراق: بـ(أنها تحترم تفسير المحكمة الاتحادية العليا) لـ(المادة الأولى من الدستور).. لتنتهى (زوبعة) الاستفتاء، وليعلن الرئيس العراقي (فؤاد معصوم) من جانبه عن ترحيبه بإعلان حكومة كردستان العراق التزامها بتفسير المحكمة الاتحادية العليا للمادة الأولى من الدستور (القاضي بحظر انفصال أي جزء من العراق وضمان وحدته وسيادته)، ليعلن الزعيم مسعود البرزاني المنتهية ولايته.. تنحيه عن السلطة -في خطاب وداعي باكٍ- مطلع شهر نوفمبر الجاري).
* * *
لقد كان عجيباً.. أن يجرى كل هذا في (أقليم كردستان العراق)، الذي كان يشكل -على الدوم- نقطة قلق عربية عميقة.. مخافة انفصاله، واستقلاله بـ(موارده النفطية) التي ستؤثر -دون شك- على مجمل القدرات الاقتصادية العراقية.. دون أن تقول جامعة الدول العربية (كلمة واحدة)! أو تعبر عن (موقف) يستنكر دعوة (الأقليم) لـ(الاستفتاء) على الانفصال.. فضلاً عن أن تقوم بـ(إيفاد) مندوب إلى إقليم كردستان العراق لـ(احتواء) أزمة الاستفتاء على انفصال (الأقليم)، لكن هذه هي الحقيقة المؤسفة.. التي يجب أن يدركها العرب الاقحاح..! فإلى جانب (القطرية) التي تفترس الأمة.. هناك تكريس لـ(أحادية) المشاعر بين العرب.. فما يجري في موريتانيا يخص موريتانيا، وما يجري في (الصومال) يخص أهل الصومال.. وهكذا هي صورة لا تبشر بخير لـ(مسقبل) هذه الأمة، على أنه لا يصح ونحن نعيش هذه الحالة السوداوية: أن لا نهنئ العراق والعراقيين والوحدويين العرب حيثما كانوا.. بـ(نجاتهم) من (انفصال) كرديستان العراق.. وبقاء (دولتهم الاتحادية) عزيزة مصانة.