عرض وتحليل - حمد حميد الرشيدي:
لم يأخذ مصطلح نقدي حديث من تعدد الدلالات وتواشجها والمفاهيم وتداخلها, والتعاريف واتساعها مثل ما أخذه مصطلح (التعالق النصي) ومترادفاته التي تسبح في فضاء رحب, يستدعي دخول كثير من أوجه الخطابين: الأدبي والنقدي تحت هذا المصطلح ذي المدلول الواسع, حتى اندرجت تحته مسميات أخرى جديدة, تفرعت عنه, وإن كان مفهوم كل منها ينصب - في نهاية الأمر - في المعنى العام لهذا المصطلح الرئيس, الذي يشير إلى ارتباط شيء من النصوص الحديثة بغيرها من النصوص القديمة, وعلاقة التأثر والتأثير المتبادلة بين النصوص السابقة واللاحقة منها!
ولعل مصطلح (السرقات الأدبية) في تراثنا الأدبي العربي القديم هو أول مصطلح نقدي صاغه النقاد العرب الأوائل للدلالة على علاقة أو تفاعل نص حاضر معاصر مع نص سابق, مع وجود قرينة واضحة على هذا التفاعل بين الاثنين .
لكن النقاد المعاصرين قد قاموا باستبدال هذا المصطلح القديم (السرقات) بمصطلح (التناص) الحديث, ليكون الثاني منهما بديلاً كلياً للأول.
وهكذا توسعت مدارس النقد الأدبي العالمي الحديث والمعاصر في استخدام هذا المصطلح وتنوّع مفاهيمه, وتعدد مسمياته, حيث تبناه الناقد المغربي المعروف الدكتور محمد مفتاح تحت مسمى (التعالق النصي) الذي استنبطه من (كريستيفا) و(رولان بارت)و(تودورف) وغيرهم من رواد (الألسنيات) في العصر الحديث.
أما الناقد المغربي المعروف, الدكتور سعيد يقطين فقد آثر أن يطلق عليه مرادفاً آخر هو (التفاعل النصي). وكذلك الحال بالنسبة للدكتور عبد الله الغذامي الذي فضل أن يطلق عليه مسمى آخر يختلف عن سابقيه, ألا وهو (التداخل النصي). وجميع هذه التسميات , وما شابهها - لفظاً ومعنىً - كـ (المصاحبات الأدبية) أو (المتعاليات النصية) وغيرها وإن اختلفت عن بعضها لفظا فهي متفقة معنى تقريباً.
ومن هنا كانت لي هذه الوقفة مع (التعالق النصي) في ديوان (سماوات ضيقة) الصادر عام 2016م عن (دار المفردات) للنشر بالرياض للشاعر السعودي خليف الغالب (شاعر شباب عكاظ ) في موسمه سنة 2016م. وهذا (التعالق) يشيع بكثرة في قصائد هذا الديوان, إما (لفظياً) على نحو مباشر في معظم الأحيان, أو (ضمنياً) في بعض الحالات, وهو - على أي حال - يدل على موهبة شعرية خلاقة, ومهارة لغوية فائقة , ليس من السهل على كثير من الشعراء إتقانها, ما لم يكن الشاعر على جانب كبير من الثراء اللغوي, والاطلاع الواسع على التراث الشعري والنثري العربي, وله المقدرة الحاذقة في استحضار الموروث الثقافي ورموزه لأي أمة من الأمم, والتبحر فيه, ومحاولة فلسفته على نحو يحقق (المعاناة المشتركة) بين شاعر سالف وشاعر آخر معاصر, شريطة ألا يتوقف الثاني منهما عند ما انتهى إليه الأول, وإنما ينبغي عليه العبور بالحالة الماضية التي صورها سابقه إلى حيز الحاضر , وكأنه يعيد استنساخها من جديد, بلغة وزمان ومكان مختلف عن (الحالة الأصل) وعن لغتها وزمانها ومكانها الحقيقي. ومهما كان من أمر (التعالق النصي) بين النصوص فانه يظل ذا أهمية كبرى في تغذية النص الجديد بأبعاد جمالية وفنية كثيرة!
وكمثال على التعالق النصي اللفظي في الديوان نص جاء بعنوان «حزن صعلوك متأخر» الذي تناص فيه الشاعر مع (الشنفرى) من خلال قصيدته الشهيرة, المعروفة بـ «لامية العرب» إذ يقول من ضمنها:
« أقم صدور» المنايا لست ندمانا
«قد حمت» الأرض «أشواقا لموتانا
ضاقت دروب من الأحلام نعرفها
وأسفر الموت في هزلى مطايانا
قد كان ما كان «إن صدقاً وإن كذبا» لن يتعب القلب في تفسير ما كانا. الديوان:ص32.
وفي نص آخر جاء تحت عنوان «رسائل الطائي الممزقة» يتضح لنا تأثره بشخصية (حاتم الطائي) كرمز للكرم والجود والسخاء وبقصيدة نزار قباني البائية المعروفة» أنا يا صديقة متعب بعروبتي...» بل انه جاء متضمنا بعض المقاطع من قصيدة نزار المذكورة, إذ يقول الغالب:
فأنا الغريب على شواطئ موطني
«والعاشقون جميعهم أغرابُ»
سامر نزارا أو صديقة حرفه
«وهل العروبة لعنة وعقابُ»؟
. الديوان: ص56.
أما (التعالق الضمني) في قصائد الديوان فقد بدا أقل حضورا من (اللفظي) وبشكل كبير, لكونه يحتاج من القارئ تريثا وتمعنا دقيقا , وتفحصاً متأنياً لثنايا النصوص, وليس من السهل على أي قارئ أو سامع إدراكه, أو اكتشافه بسهولة ويسر, ما لم يكن على دراية واسعة بتراثنا الأدبي العربي, وموروثنا الثقافي, بقديمه وحديثه.
ومثال ذلك في هذا الديوان نص جاء بعنوان « بدوي» إذ يقول في أحد أبياته:
وعن جوع الضيوف أعيذ وجهي
ولو ضحيت بابني أو شقيقي
الديوان: ص11.
فالمتعمن جيداً في هذا البيت يجد بينه وبين ما قاله (الحطيئة) من قصيدته (الميمية المشهورة) توافقاً كبيراً من حيث الصورة والمعنى, حين قال:
وقال ابنه لما رآه بحيرة
أيا أبت اذبحني ويسر له طعما
ففي كلا البيتين تتجلى لنا غاية الكرم العربي, والتضحية بأغلى ما يملكه المضيف, إكراماً لضيفه حين يحل عليه في منزله, حتى لو كلفه الأمر أن يضحي بابنه أو بأحد أشقائه! وهو - بالتالي - يعكس شيئاً من تأثر الشاعر اللاحق (الغالب) بالشاعر السابق(الحطيئة)!