د. إبراهيم بن محمد الشتوي
إكمالاً للفرضية التي ختمت بها المقال السابق، وأنها تمثل الذين يؤمنون بدولة الخلافة الإسلامية، وهذه الأيديولوجيا بوجه عام من أنصارها وأخواتها، أقول إن «دولة الخلافة»، تزعم أنها تمثل الإسلام الصحيح، كما هو في المصادر القديمة، وكما تنقله كتب التاريخ والروايات.
وهي لا تكتفي بذلك حتى تحاول أن تتمثل الإسلام تمثلاً دقيقًا حتى لا يشك في انتسابها إليه، فتلبس ما يلبسون، وتأكل بالطريقة عينها التي كانوا يأكلون بها، أو يظن أنهم يأكلون، ويخرجون في مشاهد قريبة من الحياة التي كانوا يعيشون فيها.
هذه الصورة التي جاءت عليها «دولة الخلافة الإسلامية» فيها جزء كبير متخيل، بناء على أن الحياة القديمة ليست مقيدة لا في صور ثابتة ولا متحركة، ساهم في صنعها عدد كبير من المؤثرات، جزء منها ما استقر في الذهن عن تلك الحقب من القراءة في كتب التاريخ، ووصف ملابسهم، وعاداتهم في الأكل والشرب، والحياة اليومية، ثم ما تبع ذلك من رسومات، وصور تحاكي تلك المراحل، وتتخيله، أو ما أنتج من أعمال فنية سواء كانت سينمائية أو تلفزيونية تقدم ذلك العصر.
وهذا يقربنا إلى ما يسمى بـ»الرواية التاريخية» التي يذكر النقاد أن كاتبها يقوم باختيار حدث تاريخي، ثم يقرأ في كتب التاريخ المختلفة حتى يبني تصورًا عن تلك الحقبة في عاداتها، وطبائع أهلها، وطرائقهم في المعاش، وفي تفاصيل الحياة اليومية. هذا التصور يقوم الخيال فيه بجزء كبير، في تمثيل المكان والزمان الذي يقع فيه الحدث التاريخي، فمن وحي تلك الحكايات والأخبار يقوم الكاتب بصناعة التفاصيل الدقيقة للخبر.
وهي بهذا تتوافق مع المسلسلات التاريخية، التي يقوم فيها المخرج والممثلون بمحاولة تمثل المرحلة التاريخية بكل جوانبها، وتقديمها للمشاهد بغية إقناعه بأنه يشاهد حقبة معينة من التاريخ، قد تكون حقبة فرعونية، أو رومانية أو عربية قديمة قبل الإسلام أو بعده، غير متردد في أن يستعمل المؤثرات الصوتية، والمكياج، والخدع السينمائية لتحقيق غايته تلك.
هذه التفاصيل تبدو في «دولة الخلافة الإسلامية» في الأعلام، والملابس، والأختام، ولغة الخطابات الرسمية، والمسميات، كما تبدو أيضا في نبرة أصواتهم، وفي المنطلقات التي يبررون بها أفعالهم.
وهنا نجد أننا أمام هدف واحد يجمع «داعش» أو «دولة الخلافة الإسلامية» وتلك الأعمال الفنية، وهو تمثل حقبة تاريخية معينة بكل حذافيرها، الفارق بين النموذج الأول (الأعمال السينمائية، والتلفزيونية)، أنها تمثيل، وتخييل، والقائمون عليها يعلمون ذلك ويعلنونه، في حين أن الآخرين يزعمون أنهم يقومون به على وجه الحقيقة، وأنهم صادقون بما يفعلون.
ونستطيع أن نجد تشابها بينهما ليس على مستوى الهدف في تكوين الحياة اليومية السالف الذكر، وحسب، وإنما أيضا على مستوى محاولة الاستفادة من التخيل في التأثير على المتلقي، ويمكن أن أضرب على ذلك مثلا بالمقطع الذي أذاعته قناة الجزيرة كثيرا، وفيه يأتي أسامة بن لادن ممتطيا حصانا أسود ثم يلوي عنانه ليغير اتجاهه، فهذا المقطع يشبه إلى حد كبير أفلام «الكاو بوي» حين يقوم الممثلون بالاستعراض على الأحصنة، خاصة أن تلك الأفلام هي أيضا أفلام تاريخية، وغالبا ما تشتمل على بطل يقوم بعمل ينقذ فيه القرية أو الساكنين فيها. ومن هنا لا نستطيع أن نبرئ الأعمال الدرامية التلفزيونية التاريخية من بناء الصورة الذهنية للعصر الإسلامي القديم، وصياغة ما يمكن أن يسمى بالعصر الذهبي في عقول الناشئة، وهو أثر واضح عندما يتخيلون ما يمكن أن أسميه باليوتوبيا الإسلامية، ويسعون لتحقيقها.
هذه الحالة التي وضعت فيها نفسها «داعش» أو وضعت فيها، جعلتنا أمام مدينة إنتاج إعلامي كبيرة، تحدث فيها الأحداث اليومية واضحة على طريقة محاكاة حقبة تاريخية قديمة، أشبه ما تكون ب»تلفزيون الواقع»، الذي يعيش فيه الناس في مكان محدد يتم فيه البث المباشر للناس، ليراقبوا ما يفعلون، ومن خلال ما تبث هذه المدينة بشكل متتباع من مقاطع فلمية سواء بصورة رسمية أو ما يبثه بعض عناصرها وتتداوله وسائل التواصل الاجتماعي.
أو أمام «متحف» كبير، يحاول أصحابه أن يقدموا نموذجًا مصغرًا عن المدينة الفاضلة، أو عن حقبة تاريخية محددة، يجد فيه الزائر كل ما كان يسمع به، أو يتخيله عن تلك الحقبة، سواء كان سلبيا أو إيجابيا، وسواء نافعا أو ضارا، ويقوم الساكنون في هذه المتحف (العاملون فيه) بتقمص أدوار تقربهم من الشخصيات الموجودة في الزمن القديم حتى يكونوا أكثر تمثيلا لهم، ومشابهة، ومن هنا يقربون الصورة من جهة للمتلقي، ويقنعونه بطريقة عيشهم، وصحتها من جهة أخرى.