تركي بن رشود الشثري
لدينا كبشر مخزون هائل من المواقف والأحداث والذكريات والمعلومات والأحكام الجاهزة.. والعجيب على ذكر الذكريات أنها ليست منجزاً فقط، بل هي تتشكل وفي حالة بناء مستمر بمعنى أنك تختلق الذكريات أو تبني على ذكرى واقعية مجموعة من الأوهام والخيالات، وترى أنك مررت بمواقف أو أحداث، وهذا غير صحيح.
قبل يوم من كتابة المقال استعرضت بعض الذكريات مع الأسرة فقلت أذكر لما كان الوالد حفظه الله يخلع أسناننا الآيلة للسقوط والتي بدأت تهتز بـ «بالزرادية؟!» فقال من هو أكبر مني سناً هذا غير صحيح بل كان يخلع أسنانكم بيده وكنت مصراً على قولي حتى ثبت أن الوالد كان يقول أعطوني الزرادية كي أخلع سن فلان وفي الآخر يخلعه بيده فثبتت صورة الزرادية في عقلي مع أنه لم يستخدمها في هذه المهمة بل لوح بها قولياً فقط ! ولا يعدو هذا أن يكون مثالاً نستهل به هذا المقال والذي نتناول فيه السبل الآمنة لاستعمال العقل ولا يكون ذلك إلا بعد تنقيته من المعلومات الضارة والقواعد المهترئة والمشاعر التي تحولت بفعل تأثيرها البالغ على العقل إلى منطلقات نحلل من خلالها الأشياء ونحكم بفعل سيطرتها على الأحياء لماذا ننظف العقل ؟
لأننا ببساطة لا نريد الغلو في الأحكام ولا خسارة الأصحاب ولا تعسر الحياة ولا القلق والتوتر ولا العجلة ولا سلطة الأفكار القاتلة وغيرها من الأمراض العقلية والأعراض الفكرية, إذن كيف ننظف العقل ؟
يكون ذلك عبر مسارات تتكامل ولا تتعارض فنحن إذا نظرنا إلى العقل نجد له وظيفتان الأولى: المنع من التجاوز أو الوقوع في المحاذير العقلية أو الفكرية أو الشرعية أو الخلقية أو الاجتماعية وغيرها.
الثانية : تحليل المدخلات، ونحن نحفل بهاتين الوظيفتين في محاولتنا لتنقية العقل ومن مسارات تنقية العقل :
- الرجوع به للحالة البكرية الأولى بمعنى إعادة التعرف على الأشياء من جديد واطراح جميع الأحكام السابقة ويستثنى من ذلك أحكام الوحي لأنها نور والعقل كذلك نور بشرط بقاءه على الأمر الأول ولذلك جاء في آية سورة النور ( نور على نور ) قال المفسرون نور الفطرة ونور الوحي ولن يتمكن كائن من كان من تصور الوحي التصور السليم كما أراد الله إلا بخلو البال من المكدرات المعرفية والمحكمات العقلية التي بنيت على أسس جاهلية ولك أن تعمم هذا على جميع ما في الوجود وما هو خارج عن النصوص الخاصة، وإن كان يدخل ضمن العمومات فالتعامل مع الأرض ومن عليها، ومن ذلك نفسك أنت لن يستقيم لك إلا بعملية طرد لا هوداة فيها لجميع الشروط والافتراضات والتوقعات المسبقة خصوصاً في البيئات التي ترفع من شأن التلقي والحفظ فقط أو التي تعلي من شأن المنطق والتحليل بلا قواعد منضبطة فقط فلا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك، بل لا بد من الحفظ فنحن أمته ولا بد من الفقه ونحن أحق به وأهله .
- التخلص من أخطاء التفكير الشائعة وذلك عن طريق الحدب على المهارات الفكرية المحايدة والتي تخلصت من أدران الأيديولوجيا أياً كانت والبداية تكون بتهذيب القياس لدى من ابتلي بالأيديولوجيا فالأصل لدى المؤدلج مقرر سلفاً ولذلك هو يقيس جميع الفروع على هذا الأصل غير الشرعي وغير عقلي بمعنى أنه مجافٍ حتى لطرائق تفكير الأحياء الطبيعيين وعليه فهو يستمر في إصدار الأحكام التي من خلالها يتعامل التعامل غير الرشيد مع تطورات الحياة ومستجدات العيش والاجتماع، فأركان القياس أصل وفرع وعلة وحكم، فالأصل معوج والفروع رهينة للأصول والعلل معلولة فجاءت الأحكام جائرة عن السواء، لذلك تلظى العالم بنيران الفاشية والنازية والشيوعية واتبعوا كل مهووس مريد ولا ننسى إسهام الشيوعية في مقتل خمسين مليون إنسان من حيث أرادت التقدم لروسيا والصين وغيرهما فالارتكاز على أصل فاسد يؤدي لأكثر من هذا فقد قالوا بحتمية التفسير المادي للتاريخ في النسخة الماركسية، وقالوا بحتمية نهاية العالم عندما تسود الشيوعية والتي هي الجنة الموعودة فالحتميات هي مبدأ الايديولوجيا ونهايتها.
- التفكير الدائم في البدائل بمعنى أنه ومع كل حادثة ومحاولة خروج من أزمتها لا بد من عرض البدائل التي يناكفها العقل وإعطاء توقعات لمخرجات هذه البدائل غير المقنعة فإن من شأن هذه الممارسة والتي يشترط فيها أن تكون جماعية ومع الذين نرى فيهم أنهم مختلفون عنا بأن يكونوا عاطفيين أو عقلانيين أو غير ذلك فمن خلال هذه العاصفة الذهنية نستطيع أن نشرك البدائل بعضها ببعض لنرسم خارطة طريق آمنة بدرجة التجرد والموضوعية والأناة التي استخدمناها ومن خلال تكرار هذا الفعل يتحول إلى ملكة نتخلص فيها من حلولنا الجاهزة وخيالاتنا الواهمة وقراراتنا التي هي دائماً في عجلة من أمرها .
- التخلص من التمحور حول الأب أو الشيخ أو الأب الروحي أو الفكري فكثير من العقول لا تطيق الفكاك عن من غذاها في بداياتها سواء كانت تلك التغذية قمعية أم سوية فلا علاقة للمربين بذلك فالمشكل يكمن في بعض النفوس والتي لديها قابلية للتعلق الشديد والإعجاب الشديد واللذان يفرزان التمحور بمعنى أن الابن يكبر ويكبر، ولكنه لا يملك لنفسه قرار ولا يستطيع إدخال خيط في إبره حتى يمرر ذلك الخيط على أحكام والده التي ترسخت في وجدانه عبر الزمن بمعنى أنه يقف لحظة عند كل موقف ليطرح على نفسه السؤال التالي :
كيف ستكون ردة فعل والدي أو شيخي لو كان في مكاني؟
إذن نحن لسنا أمام عقل نظيف بل أمام رجع صدى وأمام انحناءة في تلافيف العقل الجمعي فعقل مثل هذا لا يعول عليه كثيراً ومن هؤلاء يخرج التقليديون وأرباب الحرف المهنية والمتجمهرون في مدرجات الملاعب أو في ساحات الصراخ.
للكتب أثر عميق وغائر في النفوس وبخاصة تلك الكتب الآسرة وأولئك الكتاب الكبار فالشاب يلتهم هكذا كتب ويغرسها في وجدانه بحماس وشغف ويكررها فإذا أنتصف عمره اتخذ القرارات المبنية أساساً على هذه الفلسفات التي حشا بها دماغه في مقتبل العمر، ولذلك فكل شاب مطالب بحسن اختيار ما يقرأ ومع بداية اتخاذ القرارات هو مطالب بالمشاورة وتقبل وجهات النظر الأخرى والاستماع لا أن يتحول إلى مرسل فقط بل عليه أن يستقبل وبهذا ينظف عقله.
وهناك مسارات ومسارات وما هذه إلا أمثلة لا عناصر بإمكان القارئ البحث والإضافة إليها في سبيل تنقية تامة للعقل قبل التعجل والحكم على أنفسنا بأننا فاشلون فقد يكون سبب القرارات الخاطئة والأحكام المنحرفة هو خطأ في التفكير وكما قال أحد المفكرين لم أر ولوداً مثل الغلطة الواحدة فدخلت حياتك في سلسلة من الأخطاء بسبب الإطار الفكري الذي خنقت نفسك فيه إذن لست فاشلاً ولكنك بحاجة للخروج من هذا الإطار الضاغط على عقلك وأعصابك فقط.