قاسم حول
قبل أيام ولمناسبة انعقاد الدورة الرابعة عشر لمهرجان زاكورة السينمائي في المغرب، اتصل معي المدير الفني للمهرجان الفنان «عزيز أخوادر» يسألني أن أرشح له مخرجا هولنديا من المبدعين الهولنديين الذين لهم إنجازات في الفن السابع، ليترأس لجنة التحكيم لمهرجان زاكورة في المغرب في دورته الرابعة عشرة، والتي تنعقد ما بين التاسع والعشرين من شهر نوفمبر حتى الرابع من ديسمبر. كثيرون هم المخرجون المغاربة المؤهلون لرئاسة لجنة التحكيم وكثيرة الأسماء العربية المتداولة والمشهورة من على شاشات التلفزة. لكن الاسم المتداول في وسائل الإعلام لا يعني بالضرورة القدرة على المشاهدة السينمائية، والقدرة على معرفة مفردات لغة التعبير السينمائية الفنية والجمالية، وبعد ذلك وقبل ذلك القدرة على الموضوعية في التحكيم ورمي العلاقة الشخصية والمواقف الشخصية الذاتية، الحاسدة والغيورة بعيداً عن القيمة الثقافية الإبداعية وفكرها ومضمونها وقيمها الجمالية. الشخصية العربية عموما شخصية ملتبسة وصغيرة في ثقافتها وفي موقفها من الإبداع وبشكل خاص السينمائي، لذا تأخرت الثقافة وتأخرت السينما، ومن الصعب جداً أن تجد فيلماً عربياً في كل تاريخ السينما العربية يرقى إلى القياسية الفكرية والجمالية. ويعود السبب في ذلك، إلى ثقافة السينمائيين، في عالم يستهوي الجميع لما له من الأضواء الكاشفة والمثيرة، دون التفكير بما عليه من المسؤوليات الفنية والإنسانية. مهرجان زاكورة مهرجان فقير مادياً وصغير في حجمه قياساً بالمهرجانات العربية. ولكن يديره مجموعة من الشباب من عشاق السينما الحقيقيين، يبذلون الجهود الحثيثة لإنجاح تظاهرتهم السينمائية، وهم يحققون كل عام نجاحات أكبر وتشعر أنك في المهرجان في عائلة سينمائية حميمة وحنونة. لهذا السبب سألني المدير التنفيذي لمهرجان زاكورة، أن أحرص على مستوى المخرج الهولندي كي يترأس لجنة التحكيم، كي يتحمل المسؤولية الثقافية في قراءة الأفلام المتنافسة، والنظر إليها بعين الجمال والفكرة والجهد المبذول فيها.
قبل ثلاث دورات لمهرجان زاكورة كنت أحد أعضاء لجنة التحكيم وكانت اللجنة برئاس الفنان المبدع عبد العزيز المخيون وعضوية نخبة من المبدعين «الممثلة المغربية سعيدة باعدي، والمخرجة الكندية من أصول مغربية كاتي وزانا، والمنتجة الإيطالية لاورا كافيرو، والممثل الجزائري حسن بن زراري، وأنا» وكنا نحرص أشد الحرص على المشاهدة مع الجمهور تارة، وتارة في عروض خاصة ندقق في أبعاد الأفلام وفق أسس علمية وفنية عادلة، وخرجنا ببيان ختامي موضوعي في منح الأفلام الجوائز المناسبة. فيما عشت تجارب سينمائية عربية أخرى، كانت لجنة التحكيم فيها، تناقش الأفلام المعروضة خلال فترات الغداء وترمي بالأفلام المعروضة مثل ما ترمي عظام السمك، يومها منعت التحكيم على طاولة السمك ورمي الأفلام مثل ما ترمى عظام السمك، منطلقا من أن المخرج العربي الذي يبذل الجهود المضنية لإخراج فيلم سينمائي وسط عالم سافل من أجهزة اضطهاد الحريات الثقافية، لا يجوز محاكمته خلال وجبة الغداء واستسهال الموقف الثقافي.. إنها مسؤولية تاريخية وثقافية وفي تلك الدورة، رمت اللجنة فيلما وأبعدته عن المنافسة وهو فيلم «الملائكة لا تحلق فوق الدار البيضاء» للمخرج محمد العسلي، وكان فيلما غاية في الأهمية، فأعدته للمسابقة وحاز على الجائزة الفضية! وكان يمكن أن يحرم إبداعه من نيل الجائزة. بهذه السهولة تحاكم المهرجانات العربية ولجان تحكيمها إبداع المبدعين السينمائيين. أتحدث عن هذه التجربة لأن ثمة مهرجانات باذخة في طيرانها، وفنادقها وفي تقنية شاشة الافتتاح وجمهور النخبة والسجادة الحمراء وعروض الأزياء والسيكار الكوبي، في مهرجانات عمرها أكثر من عشر سنوات لم تستطع إنتاج مخرج واحد لفيلم واحد في بلدها، فيما مهرجان زاكورة نفسه قد أنتج العام الماضي فيلما عنوانه «أحلام واحة» وهو فيلم روائي طويل وممتاز عن واحة زاكورة التي ينعقد فيها المهرجان وقد أسندت البطولة لأبن زاكورة الممثل العالمي «كمال موماد» والذي يذكرني دائما بالممثل الأمريكي «سدني بواتيه» الفيلم من إخراج الفنان «عزيز أخوادر» وهو المدير الفني للمهرجان بتجربته السينمائية الروائية الأولى. وقد أنتج بميزانية مخفضة في حدها الأدنى .. هذا إضافة إلى الدورات السينمائية وورشات العمل في كتابة السيناريو التي يقيمها المهرجان سنويا لعشاق السينما من شباب واحة زاكورة.
هذا المهرجان يشكل الدرس الذي كنا نتلقاه في المدرسة الابتدائية في العراق وأكيد في الكثير من البلدان العربية وهو درس «الواجبات الأخلاقية» فالسينما ليست برستيج. يكفينا «برستيج» كان وبرلين وأوسكار أمريكا، وليس صحيحا السير وراء هذه المهرجانات ونحن سوف «نضيع المشيتين» مثل الغراب الذي حاول أن يمشي كما الحمامة فلم يستطع تقليدها، ولم يتمك ن من العودة إلى مشيته الأولى، لأنه نساها!
يقول الكاتب الروائي الروسي «ليو تولستوي» للفن ثلاثة أعداء جبابرة وعديمي الرحمة، الأول أكاديميات السينما في العالم والثاني المسابقات والمهرجانات، والثالث المهنية. بالتأكيد أن تولستوي يذهب إلى أبعد من هذه النظرة الصعبة لأنه لا يقبل محاكمة الإبداع ضمن الشروط السائدة والمألوفة في مختبرات كثيراً ما يؤمها الجاهلون. إن محاكمة فيلم سينمائي واحد وأقصد الفيلم السينمائي المحكم البناء والصنعة وحرية مبدعه وقدرته على التفكير هو عملية صعبة تحتاج لمن يحاكمها أن يتسم بالثقافة العالية وبالواجبات الأخلاقية التي يتعلمها صغيرا في المدرسة الابتدائية.
السجادة الحمراء وعارضات الأزياء والسيكار الكوبي والقبعة الأمريكية والدشداشة العربية والطربوش التركي كلها بمجموعها ببذخها المالي لا تستطيع أن تنتج وتخرج فيلما مثل فيلم «العار» لبيرغمان أو فيلم «غابة البتولا» لفايدا أو «الليلة الأخيرة في مارينباد» لـ ألان رينيه أو فيلم «إنهم يقتلون الجياد اليس كذلك» لسدني بولاك أو فيلم «كارمن» للأسباني كارلوس ساورا.
لقد أغلقت بعض المهرجانات أبواب دكاكينها بعد أن خسرت ميزانياتها المقررة وسوف تغلق ما تبقى من المهرجانات السينمائية الباذخة والمقلدة لمهرجانات الغرب التي تنكشف نواياها فجأة حين يظهر الحقيقة على سبيل المثال، وما حصل للمخرج الأمريكي ما يكل مور في فيلم «فهرنهايت» أو ما حصل للمخرج الجزائري «رشيد أبو شارب» في فيلم «الخارجون على القانون»
المهرجانات العربية الباذخة تنسحب من التظاهرات الثقافية فيما في كل عام يبزغ مهرجان سينمائي بسيط ويبدو متواضعا ولكنه يتألق حنونا في مستواه الثقافي ويحرص على اختيار المثقفين الحقيقيين القادرين على محاكمة الأفلام بعد أن اجتازوا في طفولتهم امتحان «الواجبات الأخلاقية» وتعلموا مهنة السينما وفق منهج الحرفية السينمائية، حينها يصبح المهرجان ضرورة موضوعية وجمالية ولا يتقاطع مع ما ذهب إليه تولستوي في تشخيص الأعداء الثلاثة للفن.