فيصل أكرم
أُصابُ بدوخةٍ تصل حدَّ الإغماء حين يحدثني أحدٌ، أو حتى يلوّح من بعيد، عن غياب الشعر في زماننا غياباً تامّاً.. الشعرُ حاضرٌ حضورَ الأنجم في سماوات البشر، وإن غاب فلا تراب يكفي لدفنه ريثما يعود.. وكم غاب وعاد ولكنه يبقى الحاضر حضوراً تامّاً عند أهله.
خارج إطار كتابتي للشعر، كثيراً ما احتفيتُ بدواوين شعرية حديثة وقصائد قديمة خالدة في عدد غير قليل من مقالاتي، وأحياناً أتخذ مصدراً واحداً لأحتفي بما أجد فيه من شعر، فمرة تحدثتُ عن الإصدارات الشعرية في النادي الأدبي بالرياض، ومرة عن القصائد التي سمعتها في مؤتمر الأدباء السعوديين.. ولأنني هنا أتحدث تحديداً عن الشعر في السعودية – بهذه المقالة – فقد اتخذتُ هذه المرة (دار المفردات للنشر) بالرياض، لأسباب كثيرة ليس آخرها أن صاحب الدار الأديب والأخ الكبير لمعظم الأدباء السعوديين – وأولهم أنا – ولا أولها أن هذه الدار فعلاً تصلح بمثابة (ترمومتر) لقياس نبض الشعر والأدب في هذه البقعة من العالم.
وقد زودني أبو مروان، حفظه الله، بدواوين كثيرة من إصدارات داره، منها ما هو لأسماء شعرية كبيرة معروفة، مثل فوزية أبو خالد، ومحمد عابس، وإبراهيم الوافي، وغيرهم من أصدقاء يعرفون تقديري لشعرهم ويعرفهم القراء أكثر مما يعرفونني.. غير أن ثمة أسماء بالنسبة إليّ جديدة، أو أنه لابتعادي الدائم عن التواجد في الرياض تحديداً وفي المملكة بشكل عام حيث أن زياراتي عادة ما تكون خاطفة؛ وفي زيارتي الأخيرة حملتُ معي حين غادرتُ عدداً من الدواوين الشعرية الصادرة عن دار المفردات بالرياض، وهنا سأتوقف بالإعجاب فقط على مقطع من كل ديوان وقع في يدي مع تحيتي للشاعر والناشر..
في ديوان (دفتر من أرق) الصادر عام 2012 يصوّر الشاعر عبد الرحمن بن إبراهيم العتل كيف أن الهوى حين يشتعل مع تعاظم الاشتياق بلا لقاء تكون النتيجة رماداً:
(لك الحبُّ والعشقُ
والأغنياتُ الجميلةْ
ولي دفترٌ من أرقْ
أدوّنُ فيهِ اشتعالَ الهوى
وشوقاً تعاظمَ حتى احترقْ)!
وعلى العكس من ذلك، تقول الشاعرة أحلام بنت منصور الحميد القحطاني، في (ثقة) من ديوانها الصادر عام 2014 بعنوان (أروقة الغياب) بما يشبه التحدي:
(ارتحلْ
حلّقْ بعيداً
واقترفْ كلَّ المسافاتِ التي تقصيكَ عني
تهْ بوحشاتِ الدروبْ
بؤْ بآلافِ الذنوبْ
راقبِ النجماتِ دوني
وابتهالاتِ الجنائنِ
وارتعاشاتِ الغروب)!
أمّا الشاعرة أسماء الزهراني، ففي ديوانها (انكسارات) الصادر عام 2005 تبتعد عن كل ذلك بمخاطبتها (الجفاف) على نحو يصل إلى مكمن الإبداع:
(إلى كم ستعبثُ بي
تغرسُ الجدبَ في شفتيَّ
وتعزفُ بالخلجاتِ نشيدَ اغترابٍ
إلى كم تحاصرُ دقات قلبي
تعدُّ عليَّ الخُطى
أيها الصمتُ
ترفع في وجه ميلاد حرفيَ سيفَ الفناءِ
وتتبعُ ظلّي
تخندقُ كلَّ الدروبِ
وتملأ أفواهها بالمساميرِ
لا تخشَ يا صمتُ
إني بقدر حنينكَ للنور فيَّ
أحنُّ إلى الانغراسِ بجوفكَ
كي أتشكّلَ خلقاً جديداً،
عصيّاً على مدركاتِ الزمنْ)!
وأخيراً، أطالع في ديوان (نضح الروح) الصادر عام 2014 للشاعرة إيمان بنت زكي العباسي، هذه الأبيات من قصيدة عمودية:
مسحورٌ يهوى ساحرَهُ
يهديهِ أداةَ الأسحارِ
يرجوه العفوَ إذا يوماً
خالجه الشكُّ بإصرارِ
أنَّ الأصدافَ إن انكفأتْ
لا تجلبُ سعداً لمحَارِ)!
ختاماً أؤكد أن ما اخترته من دواوين (المفردات) ليس أفضلها، وما اقتطفته من هذه الدواوين ليس أفضل ما فيها؛ غير أنها الذائقة فحسب تجعلني أصرّح صادقاً بالإعجاب، تأكيداً على أن (الشعر حاضر).. فشكراً للناشر الأديب عبد الرحيم الأحمدي، وتحية لكل شاعر وشاعرة في زماننا.