في العلاقة بين البحر الشعري والغرض رؤى ودراسات، جميعها لا تقطع بإثبات اطّراد العلاقة بينهما أو تحكم بنفيها، على أن (عبدالله الطيب) يرجّح أثر البحر في أداء الغرض، و(د.عبدالله الغذامي) يذهب أبعد من هذا فيُجنّس البحور إلى ذكورية وأنثوية، ويؤكد أثر الإيقاع في دلالات المعاني عند (نازك الملائكة) مثلاً.
وهنا؛ أتأمل العلاقة الخفية بين إيقاع بحر المتقارب - المحذوف تحديداً- (فعولن فعولن فعولن فعو) في قصائد العتاب -شديد اللهجة- (بائية أبي فراس وضادية ابن زيدون) أنموذجاً.
ويعلّل العروضيون تسمية المتقارب بذلك «لتقارب أوتاده وأسبابه، وله رنّة مؤنسةٌ مطربةٌ على شدة، فهو أصلح للعنف منه للرفق». والسؤال: هل اختارها الشاعر للعتاب عامداً؟ ولماذا حذف، وقيد القافية؟ في التدوين للنوتة الموسيقية يكون الصمت علامة مكتوبة تختفي فيها الموسيقا، فكيف جاءت عندهما: سكون موسيقا أو موسيقا ساكنة مضافة؟!
وابتداءً؛ العتاب في علم النفس نوعٌ من القلق النفسي لأن الآخر خالف التوقع. فيه طلب للإيضاح، واستدعاء للاطمئنان، ومن أعراض القلق تسارع النبضات، شدة الخفقان، توتر الأنفاس، فما أنسب المتقارب بموسيقاه المتصاعدة التي تلتقط أنفاسها عند تلك السكتة على الروي!
يعاتب أبو فراس في الأسر سيفَ الدولة وقد وشى به بعضهم فتأخر في الفداء، يقول:
أسيف الهدى، وقريع العرب
علامَ الجفاء وفيم الغضبْ
وما بال كتبك قد أصبحت
تنكّبني، مع هذا النكَبْ
وأنت الكريم، وأنت الحليم
وأنت العطوف وأنت الحدِبْ
وأصبحتُ منك فإن كان فضلٌ
وإن كان نقصٌ فأنت السببْ
ومن أين ينكرني الأبعدون
أمِن نقص جدٍ؟! أمِن نقص أبْ؟!
تسارع، تسارع يواجه هذا الوقوف الانفعالي، ضبط الإرادة في التملي.
ويقول ابن زيدون معاتباً ابن عبدوس الذي -كان- صديقه:
حذارِ حذارِ فإن الكريم
إذا سيم خسفاً أبى فامتعضْ
فإن سكون الشجاع النهو
س ليس بمانعه من أن يعضْ
إذا الشمس قابلتَها أرمداً
فحظّ جفونك في أن تُغَضْ
أرى كلّ مُجرٍ أبا عامرٍ
يُسرُّ إذا في خلاءٍ ركضْ
الإيقاع يجري، يعدو، فيتوقف، يكرّ مع البيت التالي فيجري، في متواليات عالية الطَرْق، تقف عند سكتة الحليم المخيفة، كأن في سكون القافية شيئاً من «سكون الشجاع النهوس»!
والإيقاع من الجوامع بين النصين، ويجمعهما أيضاً حرصهما على الاحتفاظ بطريق العودة، القصيدتان في دائرة انفعال صاخب ساخط، دائرة ضيقة محكمة عليهما -كتلك الدائرة الصغيرة على الروي- ، القصيدتان تقفان على نقطة ارتكازٍ حرجة؛ بين رجاء استمرار الصداقة، وقلق العداوة القادمة، قصيدتان كُتبتا لسماع صوت جهوري، لا لقراءة عين صامتة. فمن تشابه محاولات استبقاء المودة بعد العتاب العنيف، يقول أبو فراس:
وما شكّكتني فيك الخطوب
ولا غيّرتني عليك النوّبْ
وما غضّ مني هذا الإسار
ولكن خلصتُ خلوص الذهبْ
وكان عتيداً لدي الجواب
ولكن لهيبته لم أجِبْ
فأشكَرُ ما كنتُ في ضجرتي
وأحلَمُ ماكنتُ عند الغضبْ
ويقول ابن زيدون:
أبا عامر أين ذاك الوفاء
إذ الدهرُ وسنانُ والعيشُ غضّْ
وأين الذي كنت تعتد من
مصادقتي الواجب المفترضْ
تشوبُ وأمحضُ مستبقياً
وهيهات من شاب ممّن محضْ
وأمام هذا الانفعال (المقيّد) والمشاعر الصاخبة التي تؤول إلى سكون، يمكن تأمل (لا شعور النص)، فرواد النقد النفسي يجعلون حبكة النص بين صياغتين:
الأولى محكمة واعية يجتهد فيها الأديب، والأخرى (لا واعية) من أغوار الانفعال الداخلي بالمعنى، وأظنّ أن هذه هي التي دوزنت إيقاع القصيدتين، ضخّت الموسيقا بأقصى طاقتها، ثم كبحتها بما عُرف عن الشاعرين كليهما من قوة الإرادة، وصلابة المقاومة، وطول الجلَد.
أما الحذف في تفعيلة القافية فينمّ عن مواربة، عن بقية من المعنى مفقودة، هذا العتاب العالي ليس كل شيء، إيماءات البغض والهجاء تكاد تُعلَن لولا كوابح من أمل وقلق، فاكتفت النصوص بالترنيمات المتراكبة المتصاعدة وحذفت وقيّدت، هذه المواربة قد تكون أصدق من المعاني المصرّح بها، ويرجّح هذا ختامُ القصيدتين من غلبة الخيبة، وغمرة الخذلان:
أبو فراس:
وكنتَ القريب وكنت الحبيب
ليالي أدعوك من عن كثَبْ
فلما بعُدتُ بدت جفوةٌ
ولاح من الأمر ما لا أحبْ
فلو لم أكن بك ذا خبرةٍ
لقلتُ: صديقكَ من لم يغِب!
امتنع الهجاء لامتناع الأمن، فكانت (لو) جازمة بمعناه، وليست غير جازمة كما تظن صياغته النحوية الواعية.
ويختم ابن زيدون بالإشارة إلى (ولادة) سبب الحنق:
وأنذرْ خليلك! من ماهرٍ
بطبّ الجنون إذا ما عرَضْ
وأشعره أني انتخبتُ البديل
وأعلمه أني استجدتُ العوضْ
فلا مشربي لقلاه أمرّ
ولا مضجعي لنواه أقضْ
وحسبي أني أطبتُ الجنى
لإبّانه، وأبحتُ النفضْ
(لا شعور النص) يشكو أنه لم ينتخب بديلاً، خفقان الإيقاع يئن بأنه لم يستجد العوض، سكتة السكون تضجّ بأنها أقضت مضجعه.
وأمام نصين باسقين كقامة شاعريهما العملاقين، يتجلى أن إيقاع المتقارب عزَفَ قلقاً متصاعداً على وقع خطى المتباعِدِين، وقيْدُ القافية ألمح لقيود أعمق حول الانفعال المكبوت، وحذف جزء من التفعيلة نقل إشارة «جزء من المعنى محذوف»!
للتواصل مع (باحثون)
multaqa38@gmail.com