د. عبدالحق عزوزي
عندما نريد أن نتحدث عن العلم المنشئ والعلم المطور للمجتمعات، فيجب أن لا تغوينا شطحات المرحلة، ولا يجب أن نحيد في وصف ما يجب أن يوصف وتوجيه ما يجب أن يوجه وتقويم ما يجب أن يقوم انطلاقا من أدوات علمية رزينة وليس بناء على رغبات أو نزوات عابرة؛ فبناء الدولة الحديثة إنما يقوم على ثنائية العلم والعمل الجادين. وهما عاملان لمعادلة توازنية واحدة. فبدون العلم أي المعرفة فإن التقنية والتقدم والاحتراف تنتفي داخل المجال العام للدولة وآنذاك صل صلاة الجنازة على البلاد، وبدون عمل حقيقي خاضع لأدوات تسيير الشأن العام والعلوم الإنسانية والاجتماعية الدقيقة فإن إدارة شؤون البشر ستفشل وتضيع بذلك مصالح الجميع... والعلم لا يمكنه أن يسيس بل الحيادية والموضوعية هما أساسا التقدم العلمي الصحيح.... السياسي داخل المجال السياسي العام إنما يقوم بإعمال أدوات تسير الشأن العام لخلق الأرضية من إمكانات مادية وجامعات ومختبرات ولكي لا ينفصل العمل العلمي عن مسيرة التقدم وإلا أضحى المجال السياسي محدودا أو ملوثا يعيد نفس المعلومات ويكرر نفس التوجيهات فترجع العجلات إلى الوراء...
وقد تطورت هاته المسلمات في جل الدول الغربية وحقق البحث العلمي فيها الغايات المنشودة وساهمت في رفع عجلة التنمية في تواصل دائم مع أصحاب القرار ومؤسسي السياسات العمومية، وأصبحت الجامعات ومراكز الأبحاث والمعاهد خزانات لذوي العقول الذكية يستعان بها في عمليات التشخيص واقتراح الحلول وعمليات التوجيه بل وحتى المراقبة. وتطور موازاة مع هاته الثورة العلمية والتواصل مع دوائر القرار، نوع آخر من العلوم أصبحت لها مدارس ومريدون ومنظرون، وأعني بذلك الدراسات الاستشرافية المستقبلية، فالباحث في هذا المجال يجب أن تكون له القدرة على فهم وتحليل علمي للظاهرة المجتمعية قبل أن يغبر أغوار المستقبل، ولكن من خلال مرتكزات أساسية:
1) التحكم في المجالات التي توجه البحث مثل: التوازن البيئي -صياغة قوة دفاعية ردعية- التأثير على مجريات الأحداث الاستباقية دون الدخول في الحروب- ضمان استقرار التماسك الاجتماعي- تفادي الأزمات الاقتصادية.
2) تحديد البدائل المستقبلية انطلاقا من الحاضر (وبالضبط انطلاقا من نتائج الباحثين في العلوم الاجتماعية) لتأخذ الطابع النظري والمثالي.
3) اختيار بديل من البدائل المستقبلية كحل ناجع لمعضلة من المعضلات الممكنة أو لتحسين حالة من الحالات أو البدء في التأثير على مجريات الأحداث والتي لولاها لوصل المجتمع إلى حالة أسوأ.
4) يكون الهدف من البحث المستقبلي هو المساهمة في تطور الإنسانية وخدمة المجتمع، تماماً كما هو شأن العلوم الاجتماعية، إلا أنه في هذا الجانب موضوع البحث فإن الهدف الإضافي هو تفادي المعيقات التي تمنع من تحقيق مستقبل أفضل وبلورة الحلول لعيش أرغد.
كما تتوزع الآراء حول مفهوم هذا النوع من الدراسات بين من يراها «علما» وبين من يراها «فنا» وأنا أراها مع مجموعة من الباحثين وسطاً بين العلم والفن، لخصها الأستاذ محمد ابراهيم منصور فيما يلي:
1) على صعيد العلم، ثمة إجماع بين مؤرخي المستقبليات على أن هربرت جورج ويلز أشهر كتاّب روايات الخيال العلمي هو أول من صكّ مصطلح «علم المستقبل» وقدم إضافات عميقة في تأصيل الاهتمام العلمي بالدراسات المستقبلية.
2) يؤكد برتراند دي جوفنال (Bertrand de Jouvenal) في كتابه فن التكهن The Art of Conjecture أن الدراسة العلمية للمستقبل «فن» من الفنون، ولا يمكن أن تكون علما، بل ويصادر جوفنال على ظهور علم للمستقبل. فالمستقبل كما يقول ليس عالم اليقين، بل عالم الاحتمالات، والمستقبل ليس محدداً يقيناً، فكيف يكون موضوع علم من العلوم.
3) ويصنّف اتجاه ثالث الدراسة العلمية للمستقبل ضمن «الدراسات البينية» باعتبارها فرعا جديداً ناتجاً من حدوث تفاعل بين تخصّص أو أكثر مترابطيْن أو غير مترابطيْن، وتتم عملية التفاعل من خلال برامج التعليم والبحث بهدف تكوين هذا التخصّص. ويؤكد المفكّر المغربي المرحوم مهدي المنجرة على أن الدراسة العلمية للمستقبل تسلك دوماً سبيلاً مفتوحاً يعتمد التفكير فيه على دراسة خيارات وبدائل، كما أنها شاملة ومنهجها متعدد التخصّصات (Multidisciplinary).
ولهذا السبب تستعين كل مؤسسات الدول الغربية بهاته الدراسات التي تضع على طاولات أصحاب القرار قائمة من الحلول والخيارات الممكنة والإيجابيات المنتظرة، ولهذا السبب أيضاً تطورت تلكم المجتمعات وبقي للعلم فائدته الخالدة.