«الجزيرة» - محمد المرزوقي:
على الرغم من التقارب الكبير الذي التقى في طرحه الدكتور معجب العدواني، والدكتور خالد الرفاعي، في حديثهما عن الرواية غير الأخلاقية، إلا أنها كانت الندوة الأكثر جدلاً، والأشد تضاربًا في آراء المتداخلين على مستويين، أولهما: على مستوى طرح المحاضرين، والآخر، على مستوى المداخلات التي كان ينسف بعضها بعضًا، بدئ بعنوان الندوة، وتعريفاته إجرائيًا واصطلاحًا، وفلسفيًا، ومنه إلى رؤية الباحثين في التعاطي مع العنوان، وما عرضاه من محاور، وانتهاء بماهية الأدب، ومهمة الراوي، ودور التلقي، ومظاهر التفاعل عبر المراحل والوسائل.. متخذ الجانبين من تلقي (الصحوة) أنموذجًا على أسوأ حالات التلقي التي مر بها مشهدنا المحلي، وما أفرزته بعد ذلك من ظواهر.. جاء ذلك في ندوة أقامها نادي الرياض الأدبي الثقافي، مساء أمس الأول تحت عنوان: «الرواية غير الأخلاقية بين رأيين»، التي أدارها الدكتور محمد الخضير.
وقد استهل العدواني مشاركته مستعرضًا جملة من المفارقات التي يقود إليها عتبات عنوان الأمسية بوصفه موضوعًا أدبيًا فنيًا من جانب، وبربطه بالأخلاق ومدى تفرعه المفاهيمي، لما يترتب على ذلك من اختلاف في الرؤية عبر عديد من الزوايا التي يمكن النظر إلى (الرواية غير الأخلاقية) من خلالها، إلى جانب ما يمكن من خلاله أن ننظر إلى الرواية غير الأخلاقية المحلية مقارنة بأن لا أخلاقي عربيًا وعالميًا من جانب، ونظرة الآخر إلى غير الأخلاقي لدينا من خلال الرواية وغيرها من الأجناس الأدبية الأخرى، مردفًا قوله: عندما نقترب أكثر من هذا العنوان، من خلال «الحكاية الشعبية»، وعلاقتها بالقوالب السردية بوصفها فنًا له قالبه المحكي الخاص، فإن هذا حتمًا سيعيدنا إلى أهمية مركزها ضرورة الاشتغال على مثل هذه القوالب وآليات صياغتها، لكون الحكاية الشعبية قادرة بما تمتلكه من بناء ومضامين قادرة على أن تحدث حالة من قلب المعاني التي من شأنها مخالفة للمفهوم السائد تجاه الحكايات الشعبية، إذ إن هذا يفترض - أيضًا – عند قيامنا بهذه المراجعات من منظور (غير الأخلاقي)، الذي لا يمكن أن نعتبره هنا حكمًا عامًا، أو متطابقًا، ما يجعلنا نعيد النظر لاستقراء ما يمكن أن نقول عنه في سياق هذا العنوان بأن هناك أخلاقيات عامة للكتابة في تراثنا العربي، وصولاً إلى أخلاقيات كتابة الرواية، لنجد أنفسنا مرة أخرى أمام سؤال مفاده: كيف سنلتزم بالكتابة الأخلاقية عندما نكتب في جنس أدبي ما؟! ومنه إلى سؤال آخر: كيف سننظر إلى الأدب عبر هذا المفهوم الأخلاقي؟ وهل سننظر إليه على أن للأدب مضمونًا؟ أم شكلاً؟!
ومضى العدواني في حديثه مقسما رؤيته إلى الرواية غير الأخلاقية إلى ثلاثة محاور رئيسة، جعل الأول منها عن (المؤلف)، الذي يعد منتج النص، ومن ثم ينظر إليه من خلال ما سرده في موضوعه، إلى جانب ما قد يتم النظر إليه من جانب المتلقي دون الالتفات إلى ما أنتجه في النص، مستعرضًا في المحور الثاني (النص)، الذي قال عنه العدواني، يعد النص المرتكز الحقيقي لهذه الرؤية أو تلك، أو ربما يفترض أن تكون النظرة إليه، فإذا ما عدنا إلى الرؤية إلى النص، فإننا سنجد أن (سوق عكاظ)، يضعنا أمام أقدم الأمثلة في تراثنا العربي، الذي يجسد معيارية للنظر في النص، وتحكيمه في صورة من صور التلقي للمنتج، دون إسقاط (لمنتجه/الشاعر).
وقال العدواني: هنا نعود مرة أخرى نعيد النظر من زاوية (النص)، باتجاه (المؤلف)، متسائلين: ماذا لو كنا نقرأ نصًا أخلاقيًا لمؤلف غير عربي كأن يكون يهوديًا أو أمريكيًا، أو غيرهما؟ وماذا عن قراءتنا في المقابل لنصوص سردية كـ(ألف ليلة وليلة)، أو تلك القصائد التي تغنى بها الرواة والعرب عبر العصور لخمريات عمر بن أبي ربيعة وغيره؟ ما يعكس لنا - أيضًا - وجود حالة من التلقي كانت أبعد ما تكون عن النظرة الأحادية لمضامين تلك النصوص، لكونها كانت تنظر إلى الفنون نظرة إجمالية بنائية، في مقابل التلقي المضاد لتلك الحالة خلال مراحل معينة، التي تعد (التداولية)، أبرز ملامحها، وما تمثله من تباين من كاتب إلى آخر داخل المجتمع الواحد، ومن مجتمع إلى آخر، وملازمتها للمضامين، لكونها الأقرب إلى تمثيل الواقع، مشيرًا إلى أهمية وعي القارئ بما تعنيه القراءة (التفاهمية)، وما تقتضيه الأخرى (المعيارية).
من جانب آخر، تناول الرفاعي، عنوان الندوة (الرواية غير الأخلاقية بين رأيين)، عبر محورين، جعل أولهما عن «مشهد التفاعل»، مع هذا اللون من الروايات، عبر وقفات جاء منها: تفاعلنا كقراء مع هذا النوع من الروايات، التي عادة ما كان القراء يصفونها بالهابطة، أو الساقطة، أو غير أخلاقية من قبل (عامة) القراء، الذين شاركهم نقاد آخرون بتداول الأوصاف ذاتها، التي أشار الرفاعي إلى أنها أوصاف ناتجة عن ضعف في تفاعل القارئ، وعن إخضاعه روايات لظروف تلقٍ غير ثابتة، موضحًا أن بعض تلك الروايات التي أخذت تلك الأوصاف غير الأخلاقية، كان منها روايات نجحت في إحداث صدمة لدى القارئ؛ فيما وصف الرفاعي ثاني الوقفات، بأنها تمثل (حالة استياء المثقف الروائي) من هذا التفاعل، الذي يعد لديه مؤشرًا للتعبير عن ضعف وقصور في وعي القارئ، إِذ الموقف لدى الروائي بأنه لا بد له تماس مع قضايا المجتمع وهمومه، ما يتطلب في مقابل هذا المستوى من الكتابة قارئًا متفاعلاً.
وأضاف الرفاعي خلال حديثه عن الوقفة الثالثة بأنها تشكل محاولة لربط الحالة بالمجتمع السعودي، وربط حالة التلقي لديه بسمات معينة كمحافظ، وصحوي، مشير في سياق هذا الربط إلى ما أثارته رواية (بنات الرياض)، لدى المجتمع السعودي، مستعرضًا عديدًا من الأمثلة عربيًا وعالميًا وما أحدثته من حالات الرفض المجتمعي، مؤكدًا على أن الرواية ولدت لتكون فوق السقف لا تحتها؛ واصفًا رابع الوقفات بأنها تتمثل فيما نجده من نمو لتلك المواقف الرافضة، التي يظهر فيها تباين موجات الرفض أو القبول ما بين جيل وآخر، التي تعكس حالة من القبول بعد حالات مغرقة في الرفض، ما ينعكس على تقلص مساحة إقصاء هذا العمل، أو قبول ذلك، كديوان (معركة بلا راية) لغازي القصيبي وما واجهه من أشد مستويات الرفض، إلى جانب ما نجده من أمثلة لهذا اللون من تلقي عديد من الأعمال الأدبية، خلال فترة الصحوة.
كما استعرض الرفاعي، عديدًا من ملامح الرفض في شبكات التواصل المجتمعي، وفي مقدمتها (تويتر)، موضحًا أن تفاعلها يشتمل على مفاهيم مستدعاة منها الفكري والنقدي والعقدي، وبأن بعض تفاعلها انشغل بالنص لا بالكاتب الذي تصف نصه بأنه مما يأتي في إطار فني، أو في حرية تعبير عن رأي، مشيرًا إلى أن عامة المؤسسات الثقافية تسهم بطريقة مضادة لهذا التفاعل لتزيد من تنميط النص؛ واصفًا المحور الثاني الرئيس في حديثه عن الرواية غير الأخلاقية، بأنه هناك صوتان يتجاذبان هذه الروايات، الأول: صوت معارض لأنه يرى أنها روايات مضادة لقيم المجتمع، دون النظر إلى سياقاتها ونهاياتها، واصفًا بعض المتفاعلين رفضًا بأنهم مجرد صوت لا معنى، فمنهم من لا يرى الرواية لا فنًا ولا أدبًا!
وقال الرفاعي: لقد ظهر خلال الصوت الرافض بما لديه من إسقاطات داخل النص الواحد، أن يرى أن روايات كتبت لتكون ردًا على أخرى، إِذ يعدون - مثلاً- رواية (بنات المملكة) ردًا على (بنات الرياض)؛ مردفًا قوله في سياق حديثه عن الصوت الآخر ضمن هذا المحور: الصوت الثاني يعود إلى تاريخ الرواية ودورها فيما لا يقوله إلا الرواية دون قيود تؤطر تجربة الروائي الفكرية، أو تجربته الأدبية، ما يفترض فيه أن يمثل الروائي والقارئ مستندًا جديدًا، مؤكدًا على أن غير الأخلاقي لا لأنه غير أخلاقي كما قد يتبادر إلى الذهن وإنما لكونها لم تحقق متطلبات هذا الفن التي أورد منها: الثقافة، عجز الفهم بماهية فن الرواية، مدى التفاعل مع جدلية التلقي، الوعي، مختتمًا حيثه قائلاً: حين يغيب الوعي تحضر الازدواجية، فقد سحبت وزارة الثقافة والإعلام، رواية (زائرات الخميس)، بينما رسائل الجاحظ - مثلاً - على الرفوف، كما أن هناك جوانب مشوهة في تفاعلنا مع النصوص، وأكثرها تشوهًا العدائية التي تبدأ باستهداف الأشخاص دون النظر إلى نصوصهم، وعلى الروائي أن يوظف الرواية بدلاً من استخدامها.
المداخلات
تساءلت الدكتورة عزيز المانع، عن غياب البعد الفلسفي لمفهوم الأخلاق، للتعرف على غير الأخلاقي، رافضة أن تكون الحكايات الشعبية منجمًا للأخلاق، واصفة الحكايات الشعبية المحلية بأنها منجم للأضرار، وبأن البعد الاجتماعي يعد أبرز مظاهر تحولات التلقي، ومدى تفاعله؛ بينما تحدث الدكتور صالح معيض الغامدي في مداخلته عن وقفات جاء منها: تطابق رؤية العدواني والرفاعي عامة، واقع اقتران الثنائيات كونهما دائمًا مكان صراع، الموقف (التوفيقي) للرفاعي، صورة المجتمع عبر الرواية، ربط العمل مؤلفه كضرب من ضروب السيرة؛ فيما تساءل الدكتور حسين الحربي عن غياب التعريف الإجرائي لعنوان الندوة، رافضًا إطلاق أوصاف روايات على عديد من الأعمال ومنها (بنات الرياض) التي قال عنها: هي بيضة ديك لا رواية، وقد تحديت أن تكتب رجاء الصانع رواية أخرى وربما إن كتبت فستكون بيضة ديك أخرى! فالرواية سلوك إِنساني، وما يقحمه البعض من جنس وتابوهات للفت النظر بأن نقرأ لهم، ومع هذا فلا يمكن وصفهم بالروائيين!
وقد تساءلت الدكتورة منى المالكي، عن مدى الصواب في ربط الديني بغير الأخلاقي، وبأن الإقصاء والتهميش المؤسسي وعلى رأسه وزارة الثقافة بأن من شأنه إحداث فعل مضاد من رفع سقف التلقي، مشيرة إلى مدى تأثير النص القادر على صناعة الفارق لدى المتلقي، وبأن أشد صور الرفض تتمثل في ربطه بالشخصي؛ فيما وصفت الدكتورة هند المطيري ورقتي الندوة بالحذر، وغياب سمات غير الأخلاقي في الرواية؛ بينما تساءلت الدكتورة بسمة عروس بغياب البعد الاصطلاحي في التعاطي مع عنوان الندوة، ومدى علاقته بعلم الأخلاق، من منظور الأدب بوصفه علمًا إِنسانيًا، ما يقود البحث في هذا الجانب إلى التفريق بين غير الأخلاقي والطبائعي؛ فيما أكَّدت الدكتورة دلال المالكي، على ارتباط الأدب بالأخلاق، التي لا يمكن سلخه عنها، بدءًا من مفهوم (أدب) وارتباطها الوثيق بالقيم، فيما تساءل الممثل كرم صلاح الدين، عن واقع الإقصاء مقارنة بالمنع والفسح، والتصنيف على المستوى المؤسسي التمثل في الرقيب، أو الفردي المتمثل في التلقي.