د. حمزة السالم
ليس اليوم كالبارحة؛ فزمن اليوم زمن السرعة، مَن تأخَّر فيه تخلَّف عن الركب، ومن تخلَّف عن الركب تأخَّر، ومن تأخَّر أمسى طعام الوحوش والسباع. وركب الأمم اليوم ركب يسير على جناح الريح في تكيفه النوعي والكيفي مع المتغيرات السريعة المتقلبة. ومن الطبيعي أن يتأخر بعضٌ قليلٌ من أفراد الشارع السعودي عن اللحاق بالقفزة التقدمية الفكرية التي تسير إليها البلاد.
ولكل رجل ميزة تنافسية، ولكل شخص مهمة يصلح لها. فإذا ما جاءت ميزته أو مهمته نودي لخدمة البلاد، ومتى انتهت مهمته سلَّم الراية لمن هو أقدر منه على أداء المهمة.
فما اتُّهم خالد بن الوليد في عزله، ولم يُسائل الفاروقَ أحدٌ عن عزل سيف سلَّه رسول الله؛ فأمير المؤمنين هو ولي الأمر؛ فله خاتمة حسم القرار؛ فهو حامل الأمانة والمسؤولية. وقد رأى الفاروق أن خالدًا لم يعد مناسبًا لقيادة الجيش الإسلامي الفاتح؛ فحدة سيف خالد كانت مناسبة في حال نشأة الدولة الإسلامية أيام ضعفها، وفي حال إخضاع المرتدين، ولكن ميزة خالد التنافسية هذه لم تعد قائمة؛ فحدة سيفه ما كانت قط عيبًا وعارًا له من قبل، ولا من بعد؛ فالزمن زمن الفتوحات العظيمة التي يغلب فيها عطف سيف أبي عبيدة لكسب القلوب، وتحبيب الناس في الإسلام، لا حدة سيف خالد؛ فكان أول عمل عمله الفاروق عند توليه عزل خالد. نعم، غمد الفاروق سيفًا سلَّه الله ورسوله؛ فقد زالت ذريعة استلاله، وأمست وهي ذريعة لغمده.
ولو نظرنا لتاريخنا المعاصر فما أكثر الأمثلة والشواهد في الأمم المتقدمة. فهذا تشرشل قاد البريطانيين للنصر في الحرب العالمية الثانية، فما إن وضع سلاحه حتى عزله قومه؛ فقد انتهت مهمته المناسبة له بنهاية الحرب، حتى إذا جاء الزمان بدور يصلح له في خدمة بلاده أعاده قومه لقيادتهم، ولم ينَلْ منه سفهاء قومه، لا في عزله، ولا في عودته. والحكومات في العالم المتحضر المتقدم جميعًا تأتي لسدة القيادة بتغييرات وزارية شاملة، بل لا ينتهي عهد ولاية الرئيس إلا وقد تبدل كثيرٌ من وزرائه.
ولا يترفع الرجل الشريف عن خدمة بلاده، سواء أعاد مرؤوسًا بعد أن كان رئيسًا، أو عاد مرؤوسه رئيسًا عليه؛ فهذا سيف الله خالد بن الوليد عاد جنديًّا في جيش أبي عبيدة، بعد أن كان القائد الأوحد العظيم الذي لا يهزم، والسيف الذي لا ينكسر.
الأمم المتقدمة تخدمها أبناؤها أينما وحيثما وكيفما اتفق الزمان والسبب مع مصلحة الوطن. وما انقلب الحال؛ فأصبحت الأوطان تخدم الرجال، إلا ضاعت حينها الأوطان والرجال والأعراض والأموال.
فمثل سياسة المنظومة الإدارية في إدارة الدول كمثل الشجرة المورقة، ومثل نتاجها كمثل ثمارها، ومثل جذورها كمثل دستورها وعصبتها التي قامت عليها الدولة. فالأوراق تتبدل لصلاح الثمر والأصل، وكذلك الغصون تقطع لصلاح أصل الشجرة. أما الجذع وما تفرع منه في أهميته فهو الأصل؛ لا يتغير ولا يتبدل؛ فبقاؤه بقاء الكل، وذهابه ذهاب للكل. وكما أن الأشجار تختلف وتتنوع، وما يصلح لشجرة لا يصلح لغيرها، فكذلك هي المنظومات الإدارية للدول.
فلله الحمد والمنة، فأصل المنظومة الإدارية للمملكة العربية السعودية اليوم قد ازداد صلابة وقوة بعضده بعضد ثالث. فأصل المنظومة الإدارية اليوم للمملكة العربية السعودية هو المليك وولي عهده. فالمنعة والقوة في ازدياد بازدياد قوة الأصل، فما عاد يضر منظومتنا الإدارية رياح ولا عواصف ولا فساد غصن أو ورقة. فالأوراق تتبدل سريعًا، والأغصان المكسرة تعوض سريعًا؛ فقوة الأصل وثباته قوة للفروع وفروع الفروع، وللورق والبراعم. فقوة الأصل وثباته هما المبتدأ والمنتهى لطيب الثمرة وغزارة خيرها وكثرة عطائها.