د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** لو غرد أحدُنا بشهادة التوحيد المقدسة (لا إله إلا اللهُ محمدٌ رسولُ الله) لوجد من ينتقده وربما يسبُّه بصفته متعصبًا أو منافقًا أو فارغًا أو ما أشبهه لأن «الكتبة» في الوسائط الرقمية خليط غير متجانس؛ ففيهم العالم ونقيضُه، والمهذب وضدُّه، والظانُّ أن الكلمة هباءٌ مبعثر في الهواء والمؤمن أنها تبتدئ عند رسمها أو نطقها؛ فلبعضها فروع في السماء ولسواها ما يهوي بصاحبه دون قرار، وكل هذا مألوف ومعروف ولا إضافة فيه فلا إضافة حوله، غير أن ما يستوقف مَن هدفُه الحقيقة قولُ الحق سبحانه: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ})؛ فالنأي عن مخاطبة المختلِف بما يسوؤُه تحصينٌ للنفس وتأدب في الدرس وفوقهما تنزيه للذات الإلهية كما هي حماية للرموز العظيمة والمعاني السامية واللغة الراقية واطّراحٌ للغو الحديث ولهوه.
** منهج إعلامي رائد نحتاج إلى اقتفائه كي نرتقيَ بالذوق ولا نتيحَ مجالاً للسادح والرادح والعيِيِّ والفدم والحاسد والحاقد ومعهم العدو والشقي لينالوا من شخوصنا ونصوصنا وعطاءاتنا ومعطياتنا، ولعل ما نقرأُه من تشاتم وتلاطم كاف لإقناعنا بأن «الإعراض عن الجاهلين» خيرٌ من الاشتباك معهم حتى لو حافظنا على رقي المقال وضبط الانفعال، وقديمًا قال صلاح الدين الصفدي:
وإن بُليتَ بشخصٍ لا خلاق له
فكن كأنك لم تسمعْ ولم يقلِ
وأوصى أعرابيٌّ ابنَه -كما تروي الكتب-: «إياك أن تسبَّ الرجال فيسبوك على الملأ، وإياك أن توتر قلوبهم عليك، ولا يكُ همُّك الغلبة، وأدمن مداراة الناس وحسن معاملتهم»، وهذه أسسٌ مهمة في التفاعل الراقي في كل آن، وتزداد أهميتها أوقات الأزمات الفردية والمجتمعية ومع انتشار الوسائط الرقمية.
** في زمن لم ينأَ بعيدًا كان المشتغلون في السياسة والمهمومون بأدوائها قلة، وكنا نجد متنفسًا عنها في الكتابات الثقافية والحوارات الأدبية ومذكرات الرواد يمنحوننا من فيض علمهم وتجاربهم، وكنا نسعد بمتابعة جدلياتهم فمهما عنفت عفَّت فلا تخوض في الوقائع الشخصية إلا قليلاً.
** اليوم ملَّ النشءُ من تجاذبات الساسة، كما زهد الكبار في سيطرة العامة، ولم تعد صناعة النجوم مغريةً، وهذه ثلاثة متغيرات مهمة لا يجوز تجاهل تأثيراتها المحتملة على الحياة المعرفية، وربما لا يمضي زمن طويل حتى يُهجر الكتابُ وتُهمل النظرية وتجفَّ معاني القيم والقمم.
** نحتاج إلى مراجعة خطاباتنا الثقافية والإعلامية واستعادة اللغة بمبانيها ومعانيها وفصاحتها ونصاعتها وجمالها وجلالها كي لا تجد الأجيال الجديدة نفسَها أمام أميةٍ ثقافيةٍ قد تكون أقسى من أمية الحرف، ولعلنا نستعيد مساحاتٍ أخلتها النخب الحقيقية فاحتلتها الفضاءات العبثية حتى تضاءلت المسافات بين ما «يذهب جُفاءً وما يمكث في الأرض».
** الرقيُّ مَنفذٌ ومُنقذ.