عماد المديفر
كثيرًا ما تطرقت وتطرق غيري لمصطلح «القوة الناعمة» أو الـ «Soft Power»، وهو المصطلح الحديث في العلاقات الدولية الذي ولّفه «جوزيف ناي» أوائل التسعينيات الميلادية. وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وحين طرح الأمريكان تساؤلهم الشهير: «لماذا يكرهوننا لهذا الحد؟» - ولعلي أعود لموضوع الكراهية المزعومة تلك في المقالة القادمة، التي استأنف من خلالها تناول وثائق الهالك ابن لادن-؛ أعاد «ناي» صياغة مصطلحه الشهير، وأبرزه بشكل موسع من خلال كتاب مستقل طبع مطلع العام 2004م، في ذروة الحديث عما يسميه الأكاديميون والسياسيون الأمريكان: «معركة كسب العقول والقلوب».. وقد اشتهر هذا المصطلح - أي القوة الناعمة- وتكرر استخدامه من قبل عديد من الأكاديميين والباحثين والسياسيين والإعلاميين لدرجة ربما أن البعض أخرجه عن مفهومه المتعارف عليه الذي هو القدرة على جعل الآخرين يريدون ما تريد أو ينسجمون معه ويقبلونه ويقبلون عليه، دون استخدام قوة الجبر أو الإرغام، وبالتالي فهو مصطلح يشير إلى قوة الانجذاب والاقتناع دون الإغراء بالجزرة، أو التهديد بالعصى. بل يرتكز على ثلاثة موارد أساسية: ثقافة الدولة، والقيم السياسية لها، وسياستها الخارجية الصادقة وغير المنافقة. في حين أن مصطلح «القوى الصلبة» أو «الخشنة» يشير إلى استخدام الأدوات والوسائل المالية والاقتصادية أو العسكرية لخدمة وتحقيق أهداف السياسة الخارجية والحفاظ على مصالح الدولة وتعزيزها. وليس هذا مجالاً للاسترسال حول ذلك، غير أني أردت القول بأننا وفي الوقت الذي كنّا نتحدث فيه بانبهار واهتمام حول «القوة الناعمة».. وضرورة تفعيلنا وتوظيفنا لقوانا الناعمة لتعزيز تحركاتنا على الساحة الدولية ودعمها، لا سيما في خضم المهددات، والثورات الفوضوية غير العقلانية أو الراديكالية والإرهاب، والدعايات الخبيثة والحملات الإعلامية المغرضة التي تستهدفنا؛ وإذ بسيدي ولي العهد -أيده الله- يتخطى طموحاتنا جميعًا، فضلاً عن توقعاتنا.. متجاوزًا إستراتيجية الاعتماد على القوى الناعمة للحفاظ على مصالحنا العليا والحيوية وتعزيزها، ومنطلقًا نحو إستراتيجية سياسية جديدة كليًا في العلاقات الدولية يطلق عليها: «القوة الذكية» أو الـ «Smart Power».
هذه الإستراتيجية أو هذا المصطلح لم يظهر على السطح في مراكز الأبحاث والدراسات ومراكز التفكير ودعم اتخاذ القرارات في الولايات المتحدة والغرب عمومًا إلا في بضع السنوات الأخيرة.. وأزعم أنه أرقى إستراتيجيات تنفيذ السياسة الخارجية الواقعية، فهو عبارة عن فكرة، أو نمط وطريقة تفكير أكثر من كونه مصطلحًا سياسيًا. وبشكل أساسي؛ فإن القوة الذكية هي القدرة على إدارة مصالح الدولة مع الخارج من خلال توليفة وتشكيلة متنوعة من القوى والأدوات، تتراوح ما بين الناعمة - كالمساعدات الإنسانية والإغاثية والأنشطة الثقافية والإعلامية والفكرية والدينية والفنية والتراثية والسياحية- والصلبة - كاستخدام القوات المسلحة والمقاطعات الاقتصادية- جميعًا في آن واحد.. أي أن القوة الذكية هي استحضار الدولة لهذه القوى والأدوات المتنوعة، مجتمعة، والتمكن منها، وتوظيفها بشكل مخطط وبحسب المواقف والمستجدات ونتائج دراسة الأوضاع، لمواجهة التحديات الخارجية وتحقيق مصالح الدولة والمحافظة عليها وتعزيزها.
ويجمع المتابعون المتخصصون في مراكز الأبحاث والدراسات والتفكير ذات الشأن بالمنطقة، ومراكز دعم اتخاذ القرارات، وغيرهم من الإعلاميين والسياسيين المعتبرين، أن ثمة تغيرًا كبيرًا في حيوية وفاعلية السياسة السعودية، يصفه عديد من المختصين بـ»التاريخي». وأن المملكة وفي أقل من ثلاث سنوات فقط؛ تحولت من سياسات ردود الأفعال، إلى سياسات المبادرات وصناعة الأفعال على المسرحين الإقليمي والدولي.. وهو ما يستطيع المتابع العادي للصحافة والإعلام الدولي، فضلاً عمن يتابع نتاج وأنشطة مراكز الأبحاث والدراسات تلك، ملاحظته بوضوح.
وليس ذلك فحسب، إِذ أبهرت المملكة الجميع في رؤيتها المستقبلية 2030، وبما حوته من خطط تحولية تنفيذية واضحة قصيرة المدى، وفق أهداف محددة، ومؤشرات ومعايير أداء دقيقة وشفافة. وخصوصًا من ناحية القفزات والتحولات الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة.. والسعي للانتقال من الاقتصاد المعتمد على النفط كليًا» Oil dependence، إلى اقتصاد متنوع المصادر، يعد النفط أحد مصادره المهمة Oil abundant عدا عن مشروعي البحر الأحمر ونيوم العالميين، العملاقين، ومبادرات (مسك) ومهرجان الجنادرية للتراث والثقافة ومهرجان سوق عكاظ، وغيرها من المشروعات والمبادرات والمهرجانات المجتمعية والثقافية والسياحية والصناعية التي أضحت حديثًا عالميًا تتناقل أخبارها الصحافة العربية والدولية. الأمر الذي حدا بدول عظيمة كبرى كالجمهورية الصينية الصديقة على سبيل المثال، للحديث مرارًا ومن خلال خبرائها الاقتصاديين، حول المواءمة والتكامل بين رؤية المملكة 2030 ومبادرة فخامة الرئيس الصيني التاريخية «الحزام والطريق» والشهيرة بمبادرة «طريق الحرير الجديد». هذا عدا عن مركز حوار الحضارات والأديان، ومركز مكافحة الإرهاب، ومركز الحرب الفكرية، ومركز الأمن الإلكتروني، ومركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية، وصندوق التنمية السعودي.
ومن جانب آخر؛ كان للمشاركة السعودية العسكرية الفاعلة والحاسمة في الحلف الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية للحرب على الإرهاب في سوريا والعراق، والتدخل العسكري القوي والحازم في اليمن لنجدة الشعب اليمني ودعم قيادته الشرعية ومساعدتها على بسط سلطتها على كافة التراب اليمني، والقضاء على الميليشيات والمجاميع الإرهابية والخارجة عن القانون، وتشكيل وقيادة تحالف دولي لتحقيق ذلك؛ إنفاذًا واستنادًا إلى قرار مجلس الأمن 2216، ومخرجات الحوار الوطني اليمني، والمبادرة الخليجية، وإنشاء تحالف إسلامي عسكري تاريخي لمحاربة الإرهاب مشكلاً من 41 دولة مسلمة، وتصنيف وملاحقة تنظيمات وجماعات وأحزاب إرهابية، وملاحقة داعميها والتضييق عليهم، كما هو الحال مع تنظيم الحمدين الصغير في قطر، ومع الدولة اللبنانية التي أضحت مستلبة من قبل ميليشيا حزب الله الإرهابية، ومع غيرها من الدول الداعمة للإرهاب وعلى رأسها نظام عمائم الشر والظلام في طهران. والعمل العازم والحاسم لبتر أذرعها وأدواتها الإرهابية كالقاعدة وداعش وحزب الله والحوثيين وغيرهم؛ بالغ الأثر في إعادة بلورة موازين القوى في المنطقة وفي العالمين العربي والإسلامي، وبما يعيد الأمور إلى نصابها الصحيح.. ويضبطها لحماية وتحقيق الأمن والسلم العربي والإسلامي والدولي، ويبتر أيادي الشر والتخلف والعبث والإرهاب، ويحرك ويفعل المنظمات الإقليمية العربية والإسلامية بشكل صحيح، أو يعيد توليف التحالفات وبنية المنظمات من جديد، كما فعلناها أول مرة.. وإنا بحول الله وقوته ثم بقيادة الأبطال، وعزم الرجال، لقادرون. إلى اللقاء.