«الجزيرة» - أحمد المغلوث:
ذات يوم كان الأب جالس في حالة استرخاء على «كنبة» الصالة الطويلة مكانه المفضل والتي تقع في صدر صالة المعيشة في الطابق الثاني وبجوار النافذة المطلة على حديقة البيت الصغيرة.. والكنبة المجاورة له في جهة اليسار والتي تقع في زاوية الصالة تشمخ فيها (خزانة) جميلة تحمل على رأسها فازة صينية وضعت فيها زهور وورود صناعية لكنها والحق يقال تكاد تحاكى الطبيعية.
ومع هذا لم تشكو يوماً هذه الخزانة ولم تئن من فرط ما تحتويه من أدوية مختلفة بعضها يتسم برائحه مميزة ونفاذة. ولاحتى من الاشياء الصغيرة والتي قد يحتاجها أهل البيت كبيرهم وصغيرهم.. حتى علبة نظارة القراءة الخاصة بسيدة البيت تحتل مكاناً بين هذه الأشياء.. بل يكاد يزاحمها في المكان كأس ضخم يحمل شعار أحد البنوك وضعت فيه هذه السيدة أقلاماً متنوعه منها الثمين والعادي جداً وحتى اثنان من أقلام الرصاص. مساء ذلك اليوم جاء إليها ضيف جديد لم تتعود الخزانة على أمثاله. كان ألبوماً ضخماً كان يشتمل على مجموعة كبيرة من الرسائل الشخصية بل والخاصة وبعض الصور العائلية، بل احتلت بطاقة زواجها مكاناً كبيراً في صدر الصفحة الأولى لهذا الألبوم الضخم. ونادراً ما تخرج هذه السيدة ألبومها الخاص للعلن فمكانه دائماً خزانتها الحديدية أما هذا المساء فمن أجل صاحبتها وزميلتها في الدراسة والتي رغبت أن ترى بعض الصور الخاصة بهما عندما كانتا في رحلة عائلية قبل عقود والتقطتا صوراً للذكرى. وبما أنها سوف تزورها الليلة فطلبت منها أن تشاهد معها صور أيام الشباب وتلك الرحلة كونها فقدت نسخها من الصور. وعندما استقبلتها مرحبة في الصالة الخاصة بالنساء استأذنت منها وتوجهت إلى الصالة وأخرجت (الألبوم) من الحزانه من أجل عيون صاحبتها العزيزة.. وهذا ماحصل. فلقد استمتعتا بوقت طيب معاً، وهما يسترجعان شريط الذكريات في معهد المعلمات وبعدها خلال عملهما معاً في التعليم. وتحتسيان الشاي والقهوة وتناول بعض الفطائر والحلويات.. وعندما حان موعد مغادرة صاحبتها رافقتها مودعة حتى الباب الخارجي. وفي طريقها صادفت ابنتها الكبرى فطلبت منها أن تأخذ (الألبوم) وتضعه في غرفتها فهي سوف تتأخر بعض الوقت في الدور الأرضي.. اتجهت الابنه إلى صالة النساء وحملت الألبوم ومروراً بصالة المعيشة طلب منها والدها أن (تصب) له قهوة. بسرعه وضعت (الألبوم) على مسند (الكنب) الأول في الصاله وحملت القهوة وراحت تناول والدها قهوته فجأة رن هاتفها الذكي. ووضعت الدله على الطاولة الصغيرة أمامه وأشارت إليه بأنها مشغولة بهذه المكالمة غير المتوقعه. كانت على الخط إحدى زميلاتها العزيزات، تخبرها بوصولها من السفر. وتحمل معها الأشياء التي أوصتها عليه.. أثناء إنشغال الابنه الكبرى بالمحادثة.. جاءت شقيقتها إلى صالة المعيشة فحيت والدها تحية المساء وقبلت رأسه وجلست وحانت منها التفاتة. فشادت (الألبوم) فلم تتردد أن راحت تقلب صفحاته. ووجدت الكثير من الرسائل القديمة لكن رسالة كان تاريخها في التسعينات الهجرية شدتها كلماتها فراحت تقرأ كلماتها جهراً والتي كتبها شاب لخطيبته والتي كانت تقيم أيامها خارج المنطقة. فتظاهر الأب بأنه مشغول بقراءة مقالة طويلة ومؤثرة لرئيس تحريرها عن قضية هامة في المنطقة. ولكنه لم يحتمل ولم يطق صبرا. فإذا به ينفجر ويقول: يا الله انقذنا من سخف الشباب وكلمات المراهقين.! وقبل أن ينهي كلماته إذا بزوجته تترفق في سيرها وهي قادمة إلى الصالة والأب مازال يتمتم ويسخر من كلمات الشاب الرومانسي ورسالته. وإذا به يرفع صوته محتداً: لم أسمع في حياتي سخفاً ولا كلاماً مثل هذا. والابنة تواصل قراءة الرسالة التي تقطر حباً وشوقاً.. عندها سحبت الزوجه (الألبوم) من يد ابنتها الصغرى وحملته وهي تداري غضبها وقالت لزوجها: يبدو أنك ياحبيبي نسيت حبك ورحت تتناسى معه ايضا كلماتك.. هذه رسالتك قبل 45 سنة.