د. محمد عبدالله العوين
لن ننزل إلى المستوى المنحط البذيء والأسلوب الرقيع الرخيص الذي تمارسه الصحافة اللبنانية المختطفة المستأجرة كصحيفة «الديار» ورئيس تحريرها البوق المستأجر «شارل أيوب»، وأعني بالتحديد بهذا الوصف مع «الديار» صحفاً معروفة بأنها بوق لمن يدفع ومطية لمن يستأجر وحمار لمن يعلف وورق رخيص لا يستحق دفع ليرة واحدة في شرائه؛ ولكن ورقها الأصفر العفن يدر على رؤساء تحريرها وبعض كتَّابها الملايين الحرام.
ليس غريباً على لبنان عبر تاريخه الإعلامي والسياسي الطويل أن يتوزّع كتَّابه وترتمي صحفه في أحضان كتل أو أحزاب أو تنظيمات أو حتى دول، وليس غريباً أن تُدار بعض أحزابه وتُشترى ضمائر ويكلّف سياسيون بالنهوض بأدوار تمجد زعامة أو حزباً سياسياً أو فكراً أيدلوجياً تبناه نظام سياسي ما طالما أن المال يصب من خزينة الدافع لمن يلمع!
وطوال عقود ما بعد الاستقلال من الانتداب الفرنسي 1943م إلى أن اندلعت الحرب الأهلية 1975م والساحة اللبنانية السياسية والإعلامية مقسمة موزعة مشتراة، وردهات الفنادق ومطاعمها ومقاهي بيروت فضاء رحب لبيع الذمم السياسية والإعلامية وشرائها، فضاء مشرع لا للبيع والشراء فحسب؛ بل لتنفيذ المؤامرات الكبرى كالتهيئة للإطاحة بنظام معين أو الصغرى كتصفية رمز من الرموز، وليس بخاف على أي متابع لتاريخ ما بعد الاستقلال من فرنسا وما قبل الحرب الأهلية بساعات كم هي التوجهات الفكرية أو السياسية التي قسّمت الشارع الصحافي أو السياسي بناءً على «كم تدفع» ثم ليس بخاف أيضاً كم هي تلك الجرائم التي ارتكبت في بيروت خلال تلك العقود التي كانت تومض جمراتها المتقدة تحت الرماد إلى أن اشتعلت كحرب أهلية، فكم من سياسي ومفكر وكاتب وصحافي وإعلامي اغتيل، ثم في أثناء الحرب وبعدها كم أريقت من دماء أبرياء من صفوة وخيرة المجتمع اللبناني ممن كانوا هدفاً لأعداء لبنان وغزاته، وقد تمت إحصائية سريعة لمن استهدفهم المحور الإيراني الذي يمثّله حزب الله والنظام السوري وحركة أمل بعد الاحتلال السوري وتعاظم قوة ونفوذ حزب الله فبلغت ثلاثاً وسبعين شخصية لامعة مميزة، كان أبرزهم رئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري، ثم لم تتوقف اغتيالات من يقف ضد هذا المحور الدموي الفارسي المحتل؛ بل ما زالت دماء الشرفاء تُراق على الأرض اللبنانية لمن رفع إصبعه بقول كلمة «لا» لإيران، ولقد كانت إصبع سليم اللوزي رئيس تحرير مجلة «الحوادث» هي الأولى التي ارتكب النظام السوري جريرة بترها ثم قتله إبان الحرب الأهلية؛ ولكنها لم ولن تكون الأخيرة ما دام أن هؤلاء الطائفيين الرخصاء ممن باعوا ولاءهم للفرس من النظام يمسكون بزمام الحياة في لبنان.
مثَّلت الساحة اللبنانية الملوَّثة بالخيانة والرخص الفضاء المفتوح لممارسة شهوة الانتقام من الخصوم أو الضد أو المنافس وتحقيق أطماع دول خارجية؛ فقتل الصهاينة وحزب الكتائب وحركة أمل مجتمعين آلاف الأبرياء من الفلسطينيين في مجزرة «صبرا وشاتيلا» 1982م واقتتل الجميع مع الجميع، فما من بيت لبناني إلا وفيه دم أريق، والأحزاب والكتل السياسية المكلّفة والمدفوع لها تنفذ ما يُراد منها لتكون مطية لدولة أجنبية تحقق أطماعها في فضاء لبنان الدامي.
وقد كشف استقلال رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري أزمة مضمرة لم تكن خافية عن ذوي الألباب، فليست الاستقالة هي المشكلة؛ بل المشكلة الحقيقية دوافع الاستقالة وأسبابها.
فما إن أعلنت من الرياض بعد أن هرب بجلده ونجح في النجاة بنفسه من مؤامرة اغتيال مدبرة كانت تستهدفه حتى انطلقت الأبواق الرخيصة في النواح حيناً أو في الشتيمة والتقيؤ بما هو مكنون في وجدان موالي المحور الفارسي ومرتزقته؛ فاندلعت الشاشات بالحوار المحرّض، وتسودت الصفحات بالأقلام التي نزفت الأحقاد، ونطق الرئيس الظل المومياء «ميشيل عون» بما كلّف به، وانكشفت الساحة اللبنانية بحق عمَّا هرب منه سعد الحريري يطلب النجاة.
انتهى زمن لبنان العربي منذ تمدد الحزب الشيطاني وعطَّل الحياة السياسية وشكل القوة المسلحة الأولى التي تتفوّق على الجيش الرسمي؛ فعين رئيس الجمهورية، وابتدأ زمن لبنان الصفوي، ووجب الآن على العرب استعادة جزء منهم محتل.