عبدالعزيز السماري
تشكل ظاهرة عنق الزجاجة علامة فارقة في تاريخ العرب وحضاراتهم المتعددة، وعنق الزجاجة مرحلة تتوقف عندها الحضارات، وتجاوزها يعني الانتقال من مرحلة إلى مراحل أكثر تطوراً وأكثر انضباطاً في فلسفة الحياة، ولو تأملنا التجربة الأوروبية من خلال مراحلها المختلفة السياسية أو الاقتصادية أو المعرفية، فسنجد في بعض مراحل تاريخها المعنى الدقيق لمرحلة تجاوز عنق الزجاجة.
لقد أصبحوا مثالاً على كيفية الخروج من الدوران حول نفس الثقافة المترهلة والأيدولوجيات المتحجرة، وقد تحولوا بالفعل إلى درس تاريخي للأمم، بعد ما اقتفت أثارهم دول أمريكا الجنوبية ودول جنوب شرق آسيا، وذلك من أجل تجاوز المرحلة الحرجة في مسار الحضارات، وكان ذلك النجاح عاملاً لظهور بعض النظريات العنصرية التي تمجد سلالات الإنسان الأبيض، وذلك بعد نجاحه في الخروج من دوائر الفساد والاستبداد.
التوقف عند عنق الزجاجة هو أحد أهم أسباب الدورات العصبية التي جعل منها ابن خلدون نظرية تنطبق على التاريخ العربي، وذلك بعدما تحولت الدولة إلى كائن مؤقت يدوم قرن ونيف ثم ينهار، ويأتي من يخلفه بنفس الأفكار، وهكذا، ولهذا إذا كانت هناك إرادة للخروج من هذا المضيق، فعلينا أن نتعلم من تجارب الآخرين الناجحة، وليس من تاريخ التكرار والتقليد.
في تاريخنا الطويل كانت هناك محاولات جادة للخروج من دوائر الإنغلاق، كان أهمها على الإطلاق ما فعله الخليفة المأمون، وذلك عندما فرض قرار الخروج من الصندوق، وقد نجح في فتح العقل العربي على ثقافات الأمم الآخرى، وذلك من خلال تشجيع ترجمة الكتب والمعارف، لكنها تجربة إنهارت بعد وفاته، وبعدها بسنوات خرجت الوثيقة القادرية التي تحرم الأفكار وتمنع ترجمة الكتب والمعارف.
كان ابن رشد الحفيد يمثل الوجه الآخر للتجربة العربية في عبور عنق الزجاجة، فقد قدم هذا المفكر العظيم جهداً فلسفياً عظيماً، وذلك من أجل الخروج من تاريخ الدوائر المتشابهة، وكان رائداً بالفعل في رسم خارطة الطريق للعقل وللدول لعبور المضيق الشهير، لكن نهايته كانت مآساوية للغاية، وكانت بالفعل آخر حلقات المجد العربي في القرون الوسطى.
من أجل فهم أكثر لهذا العالم الفذ، علينا مراحعة ما أحدثه ابن رشد من أثر مدوي في تاريخ أوروبا، فلم يحظ فيلسوف عربي مثل ما حظي به ابن رشد في الدراسات الغربية الوسيطة والحديثة، فقد كان انتقال فلسفته ودخولها في النطاق الأوروبي بمثابة المنعطف الحاسم في مسألة تجاوز عنق الزجاجة، أو تطور الوعي وتثويره وانقلابه على نفسه فيما بعد، فما أحدثه فكر ابن رشد أدى إلى تحرر الفكر والعلم من سيطرة الفكر اللاهوتي في أوروبا، وكان بداية إنطلاق خارج الدائرة المغلقة.
من الواجب أن لا تأتي أهمية تجاوز سطوة الفكر الديني على العقل من أجل غرض الإنفراد بالسلطة، وذلك ما حدث في تجارب الدول العربية السابقة، فتجاوز سلطة رجال الدين أدى إلى إنفراد طبقات آخرى بالثروة من خلال وسائل الفساد نفسها، وهي مسألة احتكار الحقيقة، فقد أدعوا أنهم أصحاب الرسالة الخالدة أو البعث أو الديموقراطية الشعبية، وكانت النتيجة فساد غير مسبوق.
ولهذا تعتبر خطوة تجاوز عنق الزجاجة مسؤولية عظمى في حضارتنا المتجمدة، وتستدعي إصلاحات فكرية كبرى في العقل والنظام، وهدفها تحرير العقل من سيطرة الحقيقة المغلقة التي تبرر أوهام الفساد، ثم تقدمه على أنه أعمال خيرية، وقد شاهدنا في عاملنا العربي صعود إمبراطوريات مالية على أعناق لوي الحقائق من أجل جمع الأموال.
ولهذا وقبل أن نتقدم خطوات في مسار الحضارة المشرقة مثل بقية الأمم، علينا أن نقدم تعريفات جديدة لثقافة الفساد والجريمة المنظمة، وذلك من أجل أن لا نخرج على المسار الصحيح مرة أخرى، كما حدث في تجاربنا القديمة الفاشلة، والله ولي التوفيق.