فيصل أكرم
في الرابع عشر من أكتوبر الماضي، وهو - بالمناسبة - تاريخ ميلادي غير السعيد، كتبتُ هنا، في الجزيرة الثقافية، مقالة تتضمن قصيدة عنوانها (لا تطيري يا حمامة) وكانت عن حمامة طارت فزعاً حين فتحتُ زجاج نافذة مكتبي في الرياض من بعد غياب ستة شهور، وقد غادرتُ - في اليوم نفسه - مرة أخرى تاركاً النافذة والبيت كله للحمامة حتى تعود لتواصل احتضانها الطبيعيَّ لبيضتيها اللتين كانتا في العش الذي بنته على حافة النافذة.
لم يفلح خطابي للحمامة، عرفتُ ذلك حين عدتُ الآن في زيارة خاطفة أيضاً فوجدت - للأسف - البيضتين كما هما على العش بعد أن بات مهجوراً.. هل كنتُ أخاطبُ الحمامة وحدها؟ وهل خاطب أبو فراس الحمْداني حمامة واحدة يطلب منها أن تأتي إليه ليقاسمها همومها؟ أظن لا، بل كان وكنتُ وغيرنا نخاطب السلام.. وللأسف لم نفلح.
خطاب الشعر غير خطاب الحرب.. خطابُ الشعر خطابُ سلام، أما الحرب فلها خطابات شعرائها ولكنها – برأيي – خطاباتهم الحربية شعراً وليست خطاباتهم الشعرية في حالات الحرب؛ والفرق لو تعلمون كبير!
زهير بن أبي سُلمى، الشاعر الجاهلي (صاحب الحوليات) كان في (معلقته) يخاطبُ الحربَ والسلامَ معاً:
(وَكَانَ طَوَى كَشْحاً عَلَى مُسْتَكِنَّـةٍ
فَـلاَ هُـوَ أَبْـدَاهَا وَلَمْ يَتَقَـدَّمِ
وَقَـالَ سَأَقْضِي حَاجَتِي ثُمَّ أَتَّقِـي
عَـدُوِّي بِأَلْفٍ مِنْ وَرَائِيَ مُلْجَـمِ
فَشَـدَّ فَلَمْ يُفْـزِعْ بُيُـوتاً كَثِيـرَةً
لَدَى حَيْثُ أَلْقَتْ رَحْلَهَا أُمُّ قَشْعَـمِ
لَدَى أَسَدٍ شَاكِي السِلاحِ مُقَـذَّفٍ
لَـهُ لِبَـدٌ أَظْفَـارُهُ لَـمْ تُقَلَّــمِ
جَـريءٍ مَتَى يُظْلَمْ يُعَاقَبْ بِظُلْمِـهِ
سَرِيْعـاً وَإِلاَّ يُبْدِ بِالظُّلْـمِ يَظْلِـمِ
رَعَـوا ظِمْأهُمْ حتى إذا تمّ أَوْرَدُوا
غِمَـاراً تَفَرَّى بِالسِّلاحِ وَبِالـدَّمِ
فَقَضَّـوْا مَنَايَا بَيْنَهُمْ ثُمَّ أَصْـدَرُوا
إِلَـى كَلأٍ مُسْتَـوْبَلٍ مُتَوَخِّـمِ
لَعَمْرُكَ مَا جَرَّتْ عَلَيْهِمْ رِمَاحُهُـمْ
دَمَ ابْـنِ نَهِيْـكٍ أَوْ قَتِيْـلِ المُثَلَّـمِ
وَلاَ شَارَكَتْ فِي المَوْتِ فِي دَمِ نَوْفَلٍ
وَلاَ وَهَـبٍ مِنْهَـا وَلا ابْنِ المُخَـزَّمِ
فَكُـلاً أَرَاهُمْ أَصْبَحُـوا يَعْقِلُونَـهُ
صَحِيْحَـاتِ مَالٍ طَالِعَاتٍ بِمَخْـرِمِ
لِحَـيِّ حلالٍ يَعْصِمُ النَّاسَ أَمْرُهُـمْ
إِذَا طَـرَقَتْ إِحْدَى اللَّيَالِي بِمُعْظَـمِ)
إلى قوله المشهور، برغم عدم دقته وضوحاً، أو هكذا يخيّل لي:
(وَمَنْ هَابَ أَسْـبَابَ المَنَايَا يَنَلْنَـهُ
وَإِنْ يَرْقَ أَسْـبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّـمِ)
ثم، في القصيدة (المعلقة) نفسها، كان أيضاً يخاطب السلام والحرب معاً:
(وَمَنْ لَمْ يَذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بِسِلاحِـهِ
يُهَـدَّمْ وَمَنْ لا يَظْلِم النَّاسَ يُظْلَـمِ
وَمَنْ يَغْتَرِبْ يَحْسَبْ عَدُواً صَدِيقَـهُ
وَمَنْ لَم يُكَـرِّمْ نَفْسَـهُ لَم يُكَـرَّمِ
وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِئٍ مَنْ خَلِيقَـةٍ
وَإِنْ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَـمِ
وَكَائنْ تَرَى مِنْ صَامِتٍ لَكَ مُعْجِـبٍ
زِيَـادَتُهُ أَو نَقْصُـهُ فِـي التَّكَلُّـمِ
لِسَانُ الفَتَى نِصْفٌ وَنِصْفٌ فُـؤَادُهُ
فَلَمْ يَبْـقَ إَلا صُورَةُ اللَّحْمِ وَالـدَّمِ)
وإذا كانت الحال كذلك، صورة اللحم والدم، منذ ألف ونصف ألف عام.. فكيف لحمامة أخاطبها الآن بألاّ تهجر عشها وتطير أن تسمع؟ فحتى الطيور التي لا تلد دماً ولحماً إنما مجرد بيض يأخذ عشرين يوماً في دفءِ أمّهِ على عشّ من القشّ يُخشى عليه في العالم المجنون اليوم، وتنتهز أمهاته الفرصة لتركه في عالم ما قبل الحياة الدموية هذه؛ هل يحقّ لي بعد ذلك أن أخاطب شعراً.. أخاطب سلاماً.. أخاطب الحنان والأمان؛ وأنا لا أعرف ولا أريد أن أعرف كيف (أصانع في أمورٍ كثيرةٍ) كما جاء في بيتٍ لا أحب نقله - وإن كنتُ بالفعل أعيشه - في خطاب زهير؟!
سأقتفي أثر الحمامة، مرة أخرى، وأرحل.. فكلانا كمثل السلام، إذا حمامة أبي فراس لم يفلح معها خطابه، وحمامتي لم يفلح خطابي معها.. فليفلح مع غيرنا خطابُ زهير.