د. إبراهيم بن محمد الشتوي
ذكرت في المقالة السابقة أن أول من رأيت يستعمل مصطلح «داعش وأخواتها» الأستاذ ثامر السبهان، ثم تبيّن لي بعد البحث «اليسير» أن المصطلح مستعمل بكثرة، وأن هناك كتباً قد ظهرت تحمله عنواناً لها، ولم أكن قد قمت بالبحث في الموضوع من قبل، وحين بحثت عنها، للاطلاع عليها، ومعرفة ما تدور حوله، لم أتمكن من الحصول على شيء منها. وأياً ما يكن، فإن هذا يعني أن موضوع التركيب، يستحق مزيداً من الجهد، والتأمل، كما يمكن أن يستدعي طويلاً من القول، لا أشعر بأنني ميال إليه.
هذا الظهور الذي احتلته «داعش» من بين أخواتها، كان للإعلام دور كبير فيه، فالظهور في وسائل الإعلام المختلفة من خلال مقاطع الفيديو التي تبثها لقتل ضحاياها، وتغطية أخبارها التفصيلية، وأخبار رجالها من قبل وسائل الإعلام المختلفة، خاصة ما تقوم به من تهجير، أو قتل وسبي للنساء، وعرضها في سوق النخاسة جعلها في بؤرة الاهتمام، وفي مركز التلقي لدى المشاهد أو السامع.
وفي الوقت الذي تحتل فيه «داعش» رقعة جغرافية محددة تقع بين العراق والشام، نجد أعلامها تطل علينا في كل مكان، من نيجيريا إلى ليبيا واليمن، والغرب، بل أبعد من ذلك حين نراها مع المتظاهرين في ميزوري في الولايات المتحدة، أو في البرازيل، وهذا ما يخرجها من حدودها الجغرافية بوصفها دولة ليجعلها تلحق بالجماعات ذوات الأفكار والإيديولوجيات التي لا تعرف حدود الزمان، والمكان.
الإشكالية أن أغلب الذين سمعوا عن «داعش»، وعن إيديولوجيتها، وأفكارها، ومواقفها، وأفعالها لم يسمعوا بها إلا من خلال وسائل الإعلام، سواء كانت هذه الوسائل تقليدية، أم جديدة، وأحاديث، وتقارير تبثها أيضاً وسائل الإعلام. الأمر الذي يجعل الإنسان يتبادر إلى ذهنه أن هذه الدولة أجمع ليست موجودة إلا في وسائل الإعلام، فوجودها بالنسبة للمتلقين لا يختلف عن وجود أي فلم أمريكي يبث في صالات السينما ومواقع الإنترنت، ثم على القنوات الفضائية، وهو ما يجعلها في مصاف ما سماه «بندكت أندرسن» ب» الجماعات المتخيلة»، أي التي وجودها يعود إلى الذهن، والخيال أكثر من وجودها الحقيقي. هذا الوجود الذهني يكثر في المجتمعات المنغلقة، فتجد الناس في مجتمع ما، يعيشون حياة واحدة في المأكل والمشرب، ويعتمدون وسائل واحدة في المعاش، وأمور المعاد، ثم تجد كل فئة منهم تبحث عمَّا يميزها عن الأخرى لتستظل بظله، وتعيش بكنفه، متخذة طرائق رامزة للتواصل بينها، ولتعزيز ذلك الرابط حتى يتحول إلى حاجز يمنعها من أن تذوب في الأخرى، وأن تندمج فيها، وتعتمد عليه بعد ذلك في تحديد مصالحها، وما ينفعها أو يضرها، فتتصور فعلاً أنها جماعة مختلفة.
قد يقول قائل: إن هؤلاء الناس موجودون فعلاً في بعض المناطق، في العراق، والشام، وأن الذين عانوا من سطوتهم، وسلطتهم، ونفوذهم، لا يرونهم جماعة متخيلة أبداً، بل يرونهم يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق.
ولا أريد أن أجادل في هذه الحقيقة، بناءً على احتمال أن هؤلاء الذين يخرجون في وسائل الإعلام، يتحدثون عن المصائب التي حلت في دارهم بسبب «داعش» هم أناس قد رتبوا ما يقولون، كما ترتب كثير من التقارير والتحقيقات الإعلامية، فهي صورة من المشهد الذهني الذي تبنيه وسائل الإعلام، ولن أقول إن عدد هذه الجماعة قليل إذا ما قيس بالرقعة الجغرافية التي تشغلها، وعدد سكانها، فليس من المعقول أن يتمكن هذا العدد اليسير من السيطرة على مثل هذه الرقعة بهذه السرعة، وأن يقوموا بهذه المصائب، دون محاسبة من الأنظمة التي تقع هذه المناطق تحت نفوذها.
ولن أقول إن هؤلاء الذين ينتسبون إلى داعش في هذه المناطق، لا يختلفون عن سواهم، في المظهر، مما يصعب مسألة التفريق بين من ينتسب لداعش على وجه الحقيقة ممن لا ينتسب إليها، ويدعي أنه منها، أو يكون منها، ولا يعلن انتسابه إليها، مما يجعل حال هؤلاء الذين يزعمون أنهم يمثّلونها أشبه بعصابة من الفتيان الذين يمارسون أفعالهم عن طريق التخفي والمباغتة ثم الفرار كأي مجرمين يعيشون وسط مجتمع يعاني من تردي الأمن، وضعف المؤسسة الأمنية، إلى مناطق نائية، عسرة المسالك، يتحصنون بها، ثم يصورون أفعالهم مرتدين هذه الأزياء التنكرية التي يدّعون أنها تمثّل «دول الخلافة الإسلامية».
ولكنني سأعد أن ما يقوله هؤلاء صحيح، وأن ما يحدث في المناطق التي تبسط عليها نفوذها وتتناقله وسائل الإعلام صحيح، وهنا تأتي الإشكالية، وهو المهم، والمتمثّل بأن أثر هذه الأحداث لا يقتصر على تلك الرقعة وإنما يتجاوزها إلى ما هو أبعد من ذلك بمراحل، فالأثر الحقيقي «لداعش»، ليس ما تمارسه من بطش وتنكيل، في مناطقها، ولكن الانعكاس الأكبر لهذه الأفعال في المناطق البعيدة عنها، وما تحدثه من آثار، تتجاوز مساحتها الجغرافية والمناطق المتاخمة لها بمراحل، وهو ما سأتحدث عنه في المقالة القادمة.