د.عبدالله الغذامي
أعوص مشكلات الرأي تنبع من نظرية الاجتهاد والاختلاف في الفقه، وإن كان الإمام أحمد يسمي نظرية الاختلاف الفقهي بأنها: كتاب السعة، أي التيسير والتوسيع الفقهي بعيدًا عن التشديد والإغلاق، إلا أن الحادث عمليًا هو تماهي الناس مع الرأي الفقهي بربطه أولاً بصاحبه، ومقام صاحب الرأي يتحول لمقام للرأي نفسه، وصلاح القائل يتحول ليصبح صلاحًا للقول، ومع الزمن والتواتر ترتبط هذه التصورات مع بعضها لتشكل نوعًا من الحصانة الصلبة للرأي، وهي في الأصل رأي نتج عن اجتهاد، ولا يقع الاجتهاد ـ أصلاً ـ إلا في مسائل الخلاف، أما الأصول العقدية فلا خلاف فيها ومن ثم لا اجتهاد فيها، ولن تكون موضع فتوى ولكنها موضع إبلاغ فحسب، أما الفتوى فمن اسمها وتركيبتها هي مسألة نظر وتدبر يصدر عنها رأي يرجحه قائله، ولغيره آراء آخر ترجح عندهم، وهذه تركيبة بنيوية لمعنى الفقه والتفقه، ولكن دور الفقيه يختلف حين استقباله عند الناس، حيث يقدمون شخصه وسيرته في أذهانهم قبل حجته، وكلما كان القائل صاحب مقام معنوي سار رأيه مسار الحصانة حتى لكأن قوله هو رأي الدين، وليس رأيًا (في) الدين، ويتبع ذلك ويتشابه معه رؤى سياسية وفكرية وثقافية تكتسب حصانات مماثلة بمساندة من قائليها بشخوصهم وكأن المنطق الجدلي يخص ذواتهم ويميزها، وليس صادرًا عن حيوية ذهنية طبيعتها أنها بشرية تعتمد على مقتضيات الحال وليس على العصمة، ولهذا تجد أن الآراء الصادرة عن كبيري المقامات تظل فعالة وقائدة وتحسم معارك الجدل، ويصعب على الآراء الأخرى أن تصمد أمام جماهيرية أو جمهورية الاتباع، ولقد توسعت في هذه المسألة في كتابي (الفقيه الفضائي) فصل الاجتهاد والاختلاف الذي سماه ابن حنبل بكتاب السعة، ولكن الاستقبال العام حوله إلى كتاب القانون المطلق. مع المنطق يحتم أن نقول إن الرأي البشري ليس قسيمًا للعقدي ولا مساويًا له، ولا يصح أن نتصور ما هو بشري على أنه قدسي، ولكن تعاملنا مع الآراء حسب قائليها هو ما يمنح عصمة لا أساس لها.