عرفت أخي وزميلي ورفيق دربي الأستاذ غالب كامل إبراهيم داود منذ أن التحقت بالعمل في الإذاعة عام 1384هجريًّا، وعرفت من خلال التعامل معه المعنى الحقيقي لحب العمل، وهو الإخلاص له، والتفاني في سبيل تطويره والرقي بمستواه، فقد كان مثالاً يحتذى للانضباط في تسجيل البرامج وتنفيذ الفترات، والتحضير المبكر لقراءة النشرات، إلى جانب ما يتمتع به من أناقة في الملبس، كنا نحسده عليها، ونحاول أن نقلده فيها، ولكن هيهات.. يُضاف إليها أناقته في الحديث والحوار والتعامل الأخوي حتى كسب محبة الجميع. وبالنسبة لي فقد سمح لي مشكورًا بأن أعقد معه صداقة خاصة، استمرت إلى يومنا هذا، وحتى وهو يقيم في الأردن الآن نتواصل من خلال (الفيس بوك) ونتبادل الرسائل.
أما عن حضوره الإعلامي المكثف، ومدى ما حققه من نجاح، أبهر جميع متابعيه، سواء من خلال الإذاعة أو التليفزيون، وأكسبه محبتهم، فلن أتحدث عن ذلك؛ لأنه معروف لدى الجميع، ولن أضيف جديدًا فيه.
بعد افتتاح التليفزيون حاول المسؤولون فيه سحبه إليه حتى نجحوا.. ولا ألومهم على ذلك؛ فهو مكسب كبير، وعنصر جذب للتلفزيون؛ فشخصيته المتميزة وحضوره الذهني وأداؤه المتمكن تؤهله لذلك.. وكان لهم ما أرادوا، لكنه لم ينس الإذاعة بيته الأول، ولم يدر ظهره لها كما فعل كثيرون قبله وبعده، بل ظل وفيًّا لها، واستمر في إعداد البرامج وتقديمها وقراءة النشرات.. ولا تزال أصداء برنامجه الشهير (سلامات) حاضرة في الأذهان.
ما يحزنني أن أبا سايد تقاعد عام 1419 أو 1420 هجريًّا على ما أذكر، وهو على المرتبة العاشرة. تصوروا مذيعًا بقامته وحضوره وكفاءته وإخلاصه وتمكُّنه لم يصل إلا إلى المرتبة العاشرة، مع أنه يستحق أعلى من ذلك بكثير. والأسوأ من ذلك أنه لم يحصل على الراتب الكامل للمرتبة، ولذلك قصة رواها لي هو شخصيًّا، (وأستأذنه بالإفصاح عنها هنا) فقد روى لي أنه بعد أن حصل على الجنسية زاره هو والزميل المرحوم ماجد الشبل أحد موظفي ديوان الموظفين العام، وقال لهما أنتما في الخيار، أما أن يأخذ كل واحد منكما خمسين ألف ريال، وتكون بداية خدمتكما من تاريخ الحصول على الجنسية، أو أن تتنازلا عن هذا المبلغ، وتحتسب خدمتكما من بداية عملكما قبل الجنسية. يقول: تشاورت أنا والزميل ماجد الشبل فوجدنا أن المبلغ مغرٍ؛ فقبلنا به دون أن نفكر في مسألة التقاعد؛ وبهذا سقطت خدماتنا السابقة.
ذكرياتي مع رفيق الدرب أبي سايد كثيرة ومتنوعة، ولكن خوفًا من الإطالة المملة سأكتفي بسرد هذا الموقف الطريف الذي يوضح سوء حظه مع المادة (ككل إعلامي أو أديب مخلص في عمله، لا يلتفت إلى سواه).. فقد كنا في إحدى الجلسات نتبادل الأحاديث فقال: منذ مدة وأنا مستأجر بيتًا من شخص بمنتهى اللطف والطيبة، وكنت كلما أسدد الإيجار يقول لي: (يبو سايد الله يهديك، أنت إنسان محبوب ومعروف، إلى متى تبي تظل بالإيجار؟ يمال الغنيمة ورى ما اتدور لك بيت ملك وتشتريه، ترى الإيجار دمن فاسد، دور لك بيت وشتره ويلا نقص عليك مبلغ أنا ابسلفك، وسدد لي على راحتك من عسرك إلى يسرك). فشدتني كلماته، وشكرته، وبدأت أجمع حتى أصبح لدي 600 ألف ريال، وذهبت إلى أحد المكاتب العقارية، وسألته إن كان لديه فيلا للبيع، فاستقبلني صاحبه بكل ترحاب، وأطلعني على الكثير من العروض، واخترت فيلا بأحد الأحياء الراقية يومها، وقمنا بمعاينة الفيلا، فأعجبتني، وسألته عن سعرها فقال إنها مسيومة بـ850 ألفًا، و(حادها راعيها بمليون). فقلت (أنا عندي 900 ألف، شاوره). فاتصل عليه وأخبره بأني المشتري، وأن هذا السعر المناسب؛ فوافق؛ فقمت على الفور، وحررت له شيكًا بمائة ألف ريال، وخرجت ثم ذهبت من فوري إلى صاحبي، وسلمت عليه، وقلت له: (أبشرك يبو إبراهيم شريت بيت). فتهلل وجهه، وقال (مبروك، إيه هذا السنع، هذا اللي أنا أبيك اتسويه من زمان، ترى مافيه بيت مثل الملك، وعسى ماهو بغالي؟). قلت بـ900 ألف، عندي منها 600، وباقي 300 ألف ابيك اتسلفني إياها مثلما وعدتني). فضرب كفًّا بكف وقال: (الله يهديك يبو سايد، ما لقيت إلا هالوقت اللي ما عندي فيه اقروشن طارفة؟!). قلت له (وشلون يعني، أنا دفعت عربون مية ألف ريال، ويمكن تروح علي). فقال: (غديك تصبر علي كم يوم ايلين أشوف). فودعته، ثم ذهبت في اليوم التالي إلى صاحب المكتب، وأخبرته بما جرى، فقال (أنا والله عطيت الرجال الشيك، ولا أدري، لكن خل اتصل عليه وشوف). وبالفعل اتصل فقال الرجل (أنا جاي لكم الآن). وانتظرته حتى حضر، وعندما دخل سلم علي بكل حفاوة، ثم سألني: (وش اللي حصل؟). فقلت له السبب فقال: (والله إني ما بعت الفيلا إلا للحاجة، ولكن إذا كان يكفيك شهرين أو ثلاثة أنا ابصبر عليك بالباقي). فشكرته، وقلت له: (لن أحصل على هذا المبلغ لا بسنة ولا بسنتين؛ لأن ما عندي غير الراتب، وأنت ما قصرت، وعندك العربون خذ منه اللي تريد ورجع لياللي تريد). فاخرج الشيك وأعطاني إياه وهو يقول (لن آخذ منه أي شيء). فكررت شكري له وودعتهم.
وموقف آخر يؤكد عزوف المال عنه.. يقول: ذهبت للبنك لتحديث المعلومات فاستقبلني مدير الفرع، وأدخلني في مكتبه، وتبادلنا الحديث، ثم فتح الحساب، ونظر لي باستغراب، وقال: معقول يا أستاذ غالب حسابك مجمد لها الدرجة؟ سألته كيف؟ قال: (يعني ما تحركه ولا تستثمره.. غيرك كثيرون يبيعون ويشترون بالعملات، ومعينين خير وحساباتهم تزيد). قلت (والله ما أعرف هالشيء). قال (أنا أقول لك عندك 600 ألف، ممكن توزعها على عملات، مثلاً دولار، إسترليني، أو أقول لك عندك الآن فرصة كبيرة بالحرب الأهلية في لبنان على وشك تنتهي، ومليون الليرة اللبنانية اللي كانت بمليون وستمائة ألف ريال الآن بـ 200 ألف ريال، باكر تنتهي الحرب وينتعش الاقتصاد اللبناني، وترجع الليرة لمكانتها الطبيعية). قلت له (وش تشير علي؟). قال (أشير عليك تشتري مليون ونصف مليون ليرة بـ300 ألف ريال، و300 ألف ريال تشتري بها دولارات). فوافقت، وبعد أيام نزل سعر الليرة، ثم نزل، ثم نزل إلى أن وصل إلى الحضيض، وطارت الثلاثمائة ألف ريال إلا قليلاً بحيث لا تكفي لإيجار بيت. وحسب علمي، فإنه تقاعد دون أن يمتلك بيتًا، لكنه كوَّن ثروة طائلة من المحبين والمعجبين، ليس في المملكة وحدها، ولكن في أرجاء الوطن العربي كافة، وكلهم يذكرونه بالخير، ويدعون له من القلب بالشفاء العاجل.
ختامًا، أتقدم بالشكر الجزيل لصحيفة الجزيرة الغراء - ممثلة برئيس تحريرها الأستاذ خالد المالك ورئيس القسم الثقافي الدكتور إبراهيم التركي - على مبادرتها الكريمة بالحفاوة والتكريم لمن يستحقه من رجالات الثقافة والفكر والإعلام بملفات ضخمة، تبرز جهودهم، كلٌّ في مجاله.
وأمنية واحدة أتمناها من أبي سايد، هي أن يبلور مسيرته الإعلامية الرائدة، ويوثقها ويطبعها في كتاب تتعلم منه الأجيال.
عبدالمحسن داود الخلف - المدير العام لإذاعة الرياض سابقًا