لم يكن حظ جان جاك روسو كحظ اوغسطينوس في الاعترافات؛ فإن روسو كانت اعترافاته في مراحله العمرية كلها في جوانبها المتعددة مما ترك المجال مفتوحاً للانتقادات بينما اوغسطينوس الذي سبقه بقرون عديدة ربما تخطأ في عدها قد عنى في اعترافاته كسيرة في زمن اللهو وشيئاً آخر أكثر شمولية في البعد الإنساني الأخلاقي على أن كليهما كان القاسم المشترك هو الدين ولا شيء غير الدين ! نعم هو المحرك الرئيس للاعترافات، حيث القصد عند روسو هو التجرد من الندم والتوبة التي يعقبها إفلات من العقاب، بينما عند أوغسطينوس يكمن الحذر من الوقوع في الخطيئة التي توجب العقاب ولا ينفع معها فيما بعد الندم.
وربما محورهما جميعاً الكمال الأخلاقي المؤدي إلى نفق المدينة الفاضلة بما أنهما تحت إرادة الفلسفة الإفلاطونية.
ما أشد خشيتنا ووجلنا من هذه الكلمة (اعتراف) لدرجة أن تصل بالمرء حد التزييف والكذب البواح لتجنبها في واقعنا الحالي؟! وذلك من الخوف من مستقبلها الغامض أو الغيب الذي يحمل في طياته اختزال العقاب وهذا ما يجعلنا نقع في شر الأعمال وأسوئها.
حين كتب اوغسطينوس كتابه الأدبي (الاعترافات) وهو يعني الثناء والتوبة لا يقصد به اعترافات الإنسان للإنسان كما يحدث مثلاً عند المسيحيين في الكنيسة حين يعترف للقس وإنما هو مناجاة للنفس واعتراف بالخطايا للرب، وهو عبارة عن حوار عقلي موجه للمناوئين المانويين والمتشددين وهي تجربة تحظى بالإنسان المليء بالخطايا وتوبته تقوم بتقديم النصيحة له بألا يتبع شهواته وملذاته، ويستسلم لها في عالم يزول بسرعة وضرب مثلاً بسرقته وهو صغير للفاكهة، وأن هذه بغض النظر عن لذة الكمثرى التي أصبحت في متناول يده فهي مخالفة للقانون وقد يستمر إثمها وخطيئته مع زوال لذتها.
حاول أوغسطينوس على مدار ثلاث عشرة رسالة أو كتاباً أن يجعل اعترافات الإنسان للآخرة وليس فيها ما هو للدنيا ربما لكونه رجل دين قائما على الكنيسة - بخلاف روسو - وأن المرء بين اختيارين لا ثالث لهما إما جحيم يتلظى أو نعيم دائم، وأنه مسئول عن تصرفاته منذ ولادته، بحيث جعله دائماً ينزع إلى الأنانية منذ طفولته، بل منذ مهده ورضاعته، ولولا أنه فاقد للقوة لألحق الضرر بالغير حتى إذا بلغ الطفولة الذي يستطيع فيها إلحاق الضرر كانت له سابقة عن طريق اللعب واحتيالهم فيه، واعتقد أن هذه قسوة مفرطة ومبالغة مشوبة بنوع من التجني، بحيث أن الإنسان يولد على الفطرة في كل شيء وإنما يصطبغ بكل الصفات عن طريق المحاكاة والتقليد، فهو بريء حتى يبلغ أشده وتستحكم فيه القوة العقلية فيميز بين الصواب والخطأ ! والحديث الشريف واضح كل الوضوح في ولادة الإنسان على الفطرة.
قال عمرو بن شرحبيل (لو رأيت رجلاً يرضع عنزاً فضحكت منه لخشيت أن أصنع مثل ما صنع) أثناء زحمة الاعترافات هناك غفلة عن الابتلاء وكان على روسو وأوغطينوس أن يقحما هذه النقطة الهامة والرئيسة فلو عقلها من يشمت بالمعترف لصمت الدهر كله.
وذاك زمن بعيد يعرف المرء كعمرو فيه قدره بحياة ملؤها القناعة والتواضع ، حين أقف أحياناً عند قصر مشيد بلبنات الطين وقد احنى ظهره لزمن يرميه بنبل السنين الصوارم ويعيبه بالهرم اتحسس جيوبي العتيقة لعلي أرى تلك البذرة التي طالما ضربت بها المثل في الفصل بين العالم المادي والعالم الرباني، هنا فقط لا تكفي الاعترافات وأن نقف كجدار ذاك القصر القديم نواجه التعرية بأثر الأخطاء والذنوب وإنما علينا أن نسابق فنسبق وأن نمتثل بالإرث الصحيح ونأخذ ما يوافق الدين والمجتمع لتظل الهوية سليمة من العيوب والترقيع!.
- زياد السبيت