بعيدًا عن تضارب الروايات وتحاملها أحيانًا، تعد حكاية «أمراء لارا السبعة» ووالدهم غونثالو غوستيوس من أكثر الحكايا الشعبية رواجًا في الثقافة الإسبانية. ويقال إن لها أصلاً تاريخيًا جرت أسطرته ليلائم الذائقة العامة للعصور الوسطى آنذاك. وتدور أحداث القصة حول خلاف عائلي اندلع بين أسرتي العريس والعروس انتهى بتصفية أحد الأقارب، لينشأ نوع من الحرب الباردة بين الأسرتين بدافع الانتقام، وأولى صور هذا الانتقام بعث غونثالو غوستيوس إلى قرطبة برسالة مكتوبة بالعربية، موجهة للحاجب المنصور أن أقطع رأس حاملها. لكن المنصور فضل سجن الرجل المذكور، الذي كان حاكمًا لمنطقة لارا في مقاطعة برغس، على قتله إكرامًا لسيرته الحسنة. وفي السجن جمعته علاقة بامرأة مسلمة تقول الحكاية الإسبانية إنها «فاطمة» أخت المنصور نفسه، فحملت منه سفاحًا. ثم اتفق أن أبناءه السبعة أمراء لارا، احتشدوا قرابة الحدود الأندلسية ليلقوا حتفهم بعد صدام مع المسلمين ويطاف برؤوسهم السبعة في ضواحي قرطبة وتعلق في موضع يعرف اليوم بـ «زقاق الرؤوس»، تحت أنظار والدهم المغلوب على أمره، ليفقد بصره بعد ذلك، وينتهي دوره في الحكاية. ويظهر بطل جديد لحرب الانتقام، وهو «مودارا» (مدرع؟)- وهو ابن غونثالو هذا من علاقته المحرمة تلك- الذي يتمكن من القضاء على مدبري الهلكة لوالده وإخوته غير الشرعيين.
في هذه القصة الدموية المفزعة، هناك مواضع تلفت الانتباه لعل في طليعتها الرسالة التي يحملها صاحبها وفيها حتفه دون أن يدري، ويقابلها في المدونات العربية القديمة قصة الشاعر الجاهلي الشهير طرفة بن العبد في الحكاية المعروفة حين وفد على حاكم البحرين ظنًا منه أن ما يحمله إيعازًا بالمكافأة في الوقت الذي هو أمر بالقتل، ورغم تحذير خاله له حين انكشف لهما محتوى الرسالة، فقد أصر طرفة على تجاهل الأمر وعدم تصديقه، وهو فعل من أغرب الأفعال في تاريخ العقل البشري، ولا تدري أشجاعة هو أم حماقة.
في زمن المنصور بن أبي عامر في القرن الرابع الهجري، كانت الأندلس المركز الحضاري الأعظم في أوروبا، وكانت الثقافة العربية قد تخطت حدود الأندلس، وليس ببعيد أن تكون قصة طرفة مثلاً مألوفة في الجانب المسيحي من شبه الجزيرة الإيبيرية؛ نظرًا لغرابتها وطرافتها، كما لا تمتنع -بالمقابل- الصدفة المحضة في الحكايتين، ما دمنا قررنا سلفًا منهجية الحياد تجاه التاريخ وأحداثه.
والسؤال العالق بين الخبرين: لماذا اختار المرسل حيلة الرسالة وفكرة الجلاد الوسيط لتحقيق أهدافه؟ ألم يكن قادرًا على تدبير التصفية بنفسه دون الحاجة لهذا الالتفاف المحفوف بمخاطر الهروب والإفلات؟ إن في وقائع القصتين شبهًا محيرًا؛ فأن تحمل حتفك بيدك وأنت تتكبد عناء الرحلة والسفر، لتضع السيف الذي سيجذ رأسك بيد جلادك مسرورًا بتسليمه؛ أمر مليءٌ بالنكال والتسفيه والانتقام، وهو ما أراده النعمان بن المنذر لطرفة ثأرًا منه، وما أراده روي بيلاثكيث لغونثالو غوستيوس للغرض ذاته. والفرق أن النعمان بن المنذر كان قادرًا على قتل طرفة بنفسه أو في بلاطه دون الحاجة إلى إرساله بعيدًا؛ إذ قتله على يد عامله في البحرين لن يعفيه من التبعة التي من الواضح أنه لم يكن يعبأ بها أصلاً. أما في حال روي بيلاثكيث، فقد أراد النجاة من مسؤولية قتل صاحبه، فأرسله بعيدًا ليموت بأيدي الأعداء الأزليين الذين اعتادوا معهم على الصدامات العسكرية أصلاً. وليس عامل البحرين كالمنصور؛ فذاك عبد مأمور وهذا حليف محتمل، لذا لم ينفذ سؤال الاغتيال وآثر الاحتجاز. ولا أعرف إن كان لرواية طرفة تبعات تذكر، ويبدو أنه لم يأس له أحد؛ فهو يتيم ناله كثير من تعسف الأقارب حيًا وربما استشرف خذلانهم له ميتًا. أما أمراء لارا السبعة فقد هرعوا لنصرة أبيهم، لينتهي بهم المطاف محملون على العيدان في مشهد لا يسوغه إلا حنق المسالم الجبار على المعتدي الضعيف.
ولا يبعد أن تكون قصة طرفة -برغم قصرها الشديد- ملهمة للأخرى، كما لا يبعد أن تكون القصة القشتالية هذه نسيجًا منفردًا لا علاقة له بغيره. وعلى كلٍّ، فمن ضمن للغادرين الاثنين حدوث الانتقام من غريميهما؛ فمعلوم أن المتلمس كان مع طرفة ولم يكن من الغريب أن يفتح الرسالة ويتبين مضمونها ليفلت من القتل، فإن لم يكونا يقرآن فهناك من يعرف القراءة بالعربية والفارسية. إذن كان النعمان بن المنذر في عمله هذا مخاطرًا بالهدف ولم يكن حصيفًا بما فيه الكفاية؛ فقد أفلت أحد المغدورين وكان لطرفة أيضًا أن ينجو لولا جرأته على الهلاك، إلا إن كان النعمان قد علم منه تهوره واندفاعه، وهذا مستبعد. ومن أدرى روي بيلاثكيث هذا أن غريمه لن يستقرئ الخطاب الموجه إلى المنصور بخصوصه؛ أليست مغامرة؟ أما كان هناك وسيلة أكثر ضمانة من هذه؟ خاصة أن المنصور لم يكن عاملاً لغونثالو هذا، كيف وفي عهده اعتبرت الممالك المسيحية توابع تدفع الجزية! إن في الحكايتين تأزمات بينة، وإن صحتا فلعل هناك تفاصيل لا نعرفها أو سننًا ثقافية نجهلها. وليس بمستغرب أن يكون خبر طرفة دارجًا في الأندلس وجوارها المسيحي لدرجة تأثيره في صياغة التقاطعات أو المبتكرات التاريخية وتوجيهها.
- د. صالح عيظة الزهراني