منذ شهور وأنا لا أستطيع الكتابة، أي منذ الأزمة الأخيرة لمرض أبي، التي أثرت في كثيرا كما جعلتني أجند نفسي ووقتي كله لخدمته وحسب، أنا ابنته التي تتمنى أن تقفز وتستقر في حضنه كما كانت من قبل. حينما يكبر الآباء ونكبر.. نتوقف عن شغب طفولتنا مع آبائنا وأمهاتنا ونعود رويدا رويدا لأن نكون هم ونأخذ أدوار الرعاية، حينما لا يستطيع آباؤنا أن يتواصلوا معنا بالشكل الجيد ذاته بسبب شيخوختهم.
يضحك مني بعضهم حينما أخبرهم أن أبي صار ابني الآن، ولكن من أكد لي ذلك دون أن يعلم هو ابن أختي ذي الثالثة أعوام وبضعة شهور، فحين ناديته: أنت ولدي، قال لي: ولدك بابا عبدالله.. أنا ولد ماما.
كيف يصل الصغار إلى حقيقة أن الأب هو الابن الحقيقي لابنته فيما بعد، ولا نصل إلى تلك الحقيقة الواقعية نحن الكبار؟!
ولأنه الابن لي فأنا أمارس أمومة حقيقية مع والدي، تجعلني أفرط في رعايته وتدليله، فهو من يستحق الدلال وكامل الرعاية.. أبي هذا الذي علمني كيف أعتني بشجرة العائلة وأربي أغصانها في لتصير خضراء إلى الأبد.
ولكن ترى ما العلاقة التي تربط بين الكتابة والأمومة؟ هل هي العلاقة بين الحواس والشعور الإنساني المفرط في الاقتراب من معنى أن يربي المرء أخلاقياته على أن تكتب تاريخها في ضمير الواقع كحقائق وليس ككلمات وحروف فحسب؟
إن البر بالوالدين معنى قدسي في كل الأديان، تعلمت به أنه الحجاب بين قبول دعواتهم وبين الله. وهم أقرب إلى الملائكة كلما أعيتهم أثقال السنين العابرة بهم إلى أرذل العمر.
ربما لن أطبع كتابا لي هذا العام، ولكنني حين استثمرته في العناية بوالدي ورعايته والقيام على خدمته فإن تلك المهمة عندي توازي كل كتب الكون، حيث تخلد في روحي ضمير الحق وبتلك الرعاية النبيلة سأكتسب الثقة بمدى صفاء أعماقي من تناقضات قد يقع فيها من يكتفون بالكتابة على الورق لا بمعنى ممارستها في الواقع وترسيخها في الحياة كتجربة لا تتكرر في العمر وبخاصة لأنثى مثلي ليس لها أبناء ليردوا الجميل في صورة البر التي تتكرر دائما في الأذهان حين تعطي وتعطي دون أن تتوقع مقابلا. ولكن البر والإحسان ليسا في حاجة إلى مادية الأخذ بل العطاء دون حدود وهو ما أكتفي به في حياتي وإنسانيتي وهو الخلود الذي يحدث في عمري مرة وحسب.
- هدى الدغفق