في مجلس خاص أثار صديقي الدكتور محمد البركاتي موضوعاً غاية في الأهمية بعد مقالتي السابقة عن «وجهة نظر الخارجي»، حيث ذكر أن كلمة «الخارجي» ربما لا تتوافق مع الذوق اللغوي العربي تماماً في تأديتها المعنى، وأن هذا يحدث كثيراً مع أناسٍ متمرسين في تخصص اللغة العربية فضلاً عن غيرهم، فيتجوَّزون في تناول بعض المصطلحات، قد يوجد لها بديلٌ أكثر قرباً في معناه من روح لغتنا العربية، وأنا أتفق معه كثيراً، لكني سأفصل بعض الشيء في هذه المقالة، ثم سأذكر رأيي باختصار.
المصطلحُ هو بنية دلالية سيميائية لغوية، تحيل على مرجعية ثقافية وسياق اجتماعي تاريخي معين، وحين يُتَرجَم المصطلح في العلوم الإنسانية فإنه يدخل في حدود ثقافة أخرى بحمولة معرفية مختلفة، يتحول معها إلى لفظ ذي دلالة أوسع أو أضيق منه في اللغة الأم، ومن ثم فقد يسبب إشكالاً كبيراً وخطراً في استخدامه ومعالجته لدى مستورديه من الثقافات المتنوعة.
وليتضح الأمر أكثر سأضرب مثلاً هنا ببعض المصطلحات الفلسفية التي ترجمت إلى العربية دون فصل لعوالقها الفلسفية، إما بسبب عدم القدرة على إيجاد مقابلها في العربية أو بسبب عدم الرغبة في ذلك، أو ربما بسبب غياب الوعي في ضرورة ضبط المصطلح استناداً إلى السياقات الوارد فيها، ومن ذلك مثلاً مصطلح «النسوية»، الذي يفترض عند طرحه في أي قضية نقدية فلسفية أن نأتي على إحدى أهم ركائزه المنهجية وهي «المساواة» بين الرجل والمرأة. وعند تناولنا هذه الركيزة المنهجية فإنه لا بد من أن نتحدث عن مرجعيتها الغربية التي لا ترى فرقاً بين الرجل والمرأة إلا في النوع فقط، كما يَفْتَرضُ الإتيان على هذه الركيزة أيضاً أن نستحضر «الصراع التاريخي» الذي حدث في الغرب حول الفلسفة النسوية، وامتدت جذوره إلى مجالاتٍ متعددة (سياسية واقتصادية ودينية وغيرها)، وأي محاولة أخرى لا تأخذ هذه «المساواة» وهذا «الصراع التاريخي» في الاعتبار ستكون بعيدة جداً عن حدود هذا المصطلح؛ ولذا فقد وقع كثيرٌ ممن تبنى هذه الفلسفة في البلدان الإسلامية والعربية في الخَلْطِ والغَلَط، نظراً لأنهم لم يستطيعوا الانفكاك عن الترجمة والإحالة الحرفية لمصطلحات «النسوية» ومقولاتها، ولم يردّوها إلى السياقات الخاصة بمجتمعاتهم، وإنما اعتمدوا بشكل كبير على ما وردهم من الغرب.
ومن المصطلحات أيضاً مصطلح «البنيوية»، الذي تُرجم إلى اللغة العربية بمصطلحات أخرى مثل «الهيكلية» و»البنائية» و»التركيبية»، وكلها لا تشبه بعضها تماماً في المعنى الحرفي، إضافة إلى أن اللغويين اللسانيين والنقاد الأدباء قد تنازعوا هذا المصطلح فيما بينهم، وذكره كل فريق منهم في مشاريعه البحثية المتخصصة، وربما صعب على بعض المتلقين أحياناً تمييز دلالات المصطلح بين الحقلين اللغوي والأدبي، وكذلك نجد نظرية «الشعرية» التي ظلت عرضة لترجمات مختلفة قبل أن تستقر على هذا المصطلح مع النقاد المتأخرين، فمرة كانت ترد مترجمة بكلمة واحدة مثل «الإنشائية»، ومرة تأتي في غير كلمة مثل «صناعية الأدب» وغير ذلك، مما يخلق شيئاً من الضبابية أمام بعض الدارسين والباحثين في هذا المضمار، فيعتقدون أن بين هذه الكلمات اختلافاً جذرياً في الثقافة الأم، لكنها في الحقيقة ليست كذلك، وإنما كان وقع الخلل مع النقل والترجمة.
وقد اطلعت على بعض المحاولات التنظيرية التي تقدم مقترحات يرى أصحابها أنها تساعد على إزالة الإيهام عن المصطلحات الفلسفية والنقدية المترجمة، وتسعى إلى الاستقرار على كلمات بعينها بين أصحاب الحقل المعرفي الواحد، كما تقترح إنشاء مؤسسات ثقافية تُعنى بالمصطلح، وتطالب بوضع معاجم توحد فيها الجهود، وتجمع فيها مواد الحقول الإنسانية، ويُتفق على اعتمادها مرجعاً للباحثين، مع الأخذ في الحسبان تلك السياقات الثقافية والاجتماعية والتاريخية التي تمتاز بها المجتمعات، لكنَّ ذلك -في نظري- يبدو صعباً جداً، خاصةً إذا كان المقصود ترجمة المصطلحات الإنسانية التي تتشكل ضمن منظومة عريضة من المؤثرات الداخلية والخارجية، بعكس المصطلح العلمي ذي الدلالة الصلبة، الذي تكون ترجمته بطريقة معيارية دقيقة.
في رأيي إن ما يجب على الباحث في مضمار النقد حين تعترضه مثل هذه الإشكالية أن يراعي ثلاثة أمور مهمة: الأول: شيوع المصطلح وانتشاره في الحقل الفلسفي والنقدي، والثاني: صحة اشتقاقه من الجذر العربي، والثالث: قرب دلالته من المعنى المراد تناوله، لكن رغم ذلك سيظل الجدل طويلاً جداً حول الأصلح في الاستخدام من بين المصطلحات المترجمة، وستظل الحيرة كبيرة في اختيار الأنسب منها لفكرة الكاتب والباحث، تماماً كما احترت أنا في عنوان هذه المقالة، التي أشعل فتيلها صديقي العزيز!
- د. حمد الهزاع
h.hza@hotmail.com