عمان - محمد هليل الرويلي:
قال له معلمه أنخ الركاب واسترح بعد أن تعبر الحدود هناك على قمة جبل بعمان ستجد جبلًا اسمه «غالب « هذا الغالب ممتد بحجم عطاء الوطن لن تجد شحًا في جمع مادة الملف وإجراء حوار معه. فمن سيكتب عنه كُثر بمسافة مشواره الذي أمضاه وقضاه لأكثر وأطول من عدة عقود, ربما أراد مدير تحرير الشؤون الثقافية الدكتور إبراهيم التركي أن يعطي «صاحبكم» درسًا جديدًا في الصحافة ليعلمه كيف يتعامل الناس مع الوفاء من دون تكفف أو منة, لمست عند أول العتبات وعلى بواكير صفحات الدرس سيلًا من الرسائل انهالت على البريد الإلكتروني من أصدقاء الوفاء والمرحلة وما بعد المرحلة من مثمنين ومقدرين العمل الإعلامي المهني العميق الذي لا يتكئ سوى على محبة العمل وإعطائه الوقت الكافي من الإخلاص خلاصًا للنفس, التاريخ حينها بمحابره ومداده وصحافه سيكون حاضرًا وشاهدًا منحنيًا أمام تجربته. حزمت حقيبة السفر ويممت وجهي للأردن, حيث الهواء بعمان يرطب صدر مضيفي المثقلة رئتيه بالمرض, أول كلمة قالها حين مددت يدي لمصافحته «أهلا برائحة الوطن» تجشمك ابني محمد لعناء السفر محل تقدير ووقع خاص في نفسي «أبلغ سلامي لأبي يزن لا تنسى». حينها فقط تأكدت أني فهمت رسالة معلمي كاملة.. حدقت في وجهه جيدًا. أسطوانة الأكسجين بجواره كانت الشاهد الوحيد على وجعه وهي تمد الهواء عبر أنبوب بلاستيكي موصولة بأنفه ليصل بكل وداعة باردًا لرئتيه.. مسكون بالحنين هذا الغالب بعد فقده لشقيقته وابنته الدكتورة التي افتقدها مؤخرًا بسبب مرض السرطان الذي لم يمهلها طويلًا, حاليًا هو قريب من الله, ومن هو قريب من الله سعيد..
كشف «للثقافية» الأستاذ غالب كامل _ أحد رموز الإذاعة والتلفزيون الذين منهجوا وأطروا خارطة الطريق الإعلامية في بلادنا والذي خصصت له «المجلة الثقافية» في هذا العدد ملفًا خاصًا ممهورًا بذاكرة الوفاء والتقدير من الرعيل الإعلامي الأول المجايلين والأدباء ومن عدد المحبين من الكتاب والذين تأثروا بنهجه الخاص في مسيرته الإذاعية والتلفزيونية_ أنه عاش طفولة عادية وحين شب عن الطوق ودخل المرحلة الثانوية اكتشف أنه يقرأ الجرائد والمجلات بصوت عالٍ وذلك بدعوة داخلية من ميوله الإذاعي الذي بدأ يتشكل من خلال تتبعه للمحطات الإذاعية وفي طليعتها محطة مصر «إذاعة القاهرة» في ستينيات القرن الماضي.
راتبي في إذاعة الرياض «ألف ريال»
وقال «كامل» في هذه الفترة من الزمن أعلنت إذاعة الرياض عن حاجتها لمذيعين, فقمت بتسجيل عدة تجارب على «شريط مسجل» وأرسلها على عنوان الإذاعة فتمت الموافقة على انضمامي بمرتب ألف ريال, مع مميزات العقد الموحد. وفي الرياض أمضيت الفترة الأولى من خلال برامج مسجلة وقتها لم يكن هناك بث مباشر, بعد ذلك تم إرسالنا لمدة ستة أشهر أنا والدكتور علي النجعي لجدة والتي سبقنا فيها الأساتذة _رحمة الله عليهم_ محمد الصبيحي ويحيى كتوعة ومطلق الذيابي «سمير الوادي» وبدر كريم, ومن الأخوة العرب زهير الأيوبي وعمر الخطيب ومحمد أمين وبعد افتتاح إذاعة الرياض عدنا إليها, بعدها بعام افتتح التلفزيون وكنت من بين الذين تم اختيارهم لتقديم البرامج في الإذاعة والتلفزيون معًا عام 1965م. كان حينها مدير البرامج الدكتور عبدالرحمن الشبيلي فيما المدير الإداري كان سليمان الصالح. وبعد خمسة عشر عامًا حصلت على البكالوريوس في الأدب العربي من جامعة بيروت وعينت على المرتبة التاسعة.
موقفي مع الملك فيصل «لا حول ولا قوة إلا بالله»
غالب كامل استعاد أبرز المواقف مع الملوك خلال مسيرته الإعلامية ومنها ما حدث عند افتتاح كلية القيادة والأركان في عهد الملك فيصل الذي سجل في دفتر الزيارات «بسم الله الرحمن الرحيم» فمسكت «الميكرفون» وقلت: بسم الله الرحمن الرحيم, هذه الآية الخالدة التي يستهل بها دائما الفيصل كل قول وعمل. فتوقف الملك فيصل عن الكتابة وقال: فيصل قال تذيعون, فيصل عمل تذيعون, لكن فيصل كتب! فماذا يعنيكم ماكتب؟!.
يقول «كامل» وبكل صدق نابع من أعماق النفس قلت: حتى كتابة الفيصل تعنينا وتهمنا.. فقال الفيصل: لا حول ولا قوة إلا بالله.
وهناك موقف آخر مع الفيصل أيضًا في الخرج يوم افتتاح المصانع الحربية وبعد رفع الستار عن اللوحة التذكارية توقفت أمامها أقرأ ما هو مكتوب ومدون عليها وأعلق عليه قليلًا.. ومشى الملك لقص الشريط ولم أنتبه لتأخري باللحاق به إلا بعد وصوله فكان لابد من مروري من تحت الشريط أنا والمصور لنتمكن من مقابلته فليس لي طريق سواه وفي هذه الأثناء علق الشريط بكمرة المصور وانقطع فأبديت اعتذاري لما حدث, لكن الملك فيصل برحابة صدره المعهود وسعة عطفه المشهود مع الجميع هون الموقف وبسطه وقال: سلامات.. سلامات.. عسى ماشر.. خذوا راحتكم.. وإذا جهزتوا أخبروني وسأعود.
الملك فهد قال لا تجاملون الوزراء و»طال عمرك»
كذلك حصل لي موقف مع الملك فهد _يرحمه الله_ وقتها كنت أقدم برنامج «وجه لوجه» كان ضيفي معالي وزير البرق والبريد والهاتف علوي درويش كيال وكان هناك «مكنتا هاتف» في مطار الملك خالد متعطلتين منذ وقت طويل فطالبت الوزير بإجراء صيانة لهما أو استبدالهما ليستفيد من خدمات الهاتف المسافرون والمارة.. فرفض الوزير ذلك معللاً بأنه لا يقدم الخدمة لأي إنسان غير واعٍ يقوم بإتلاف الأجهزة عبر وضع «أغطية علب الكولا» فقلت له ثانية: يا معالي الوزير إن وجود عدة أشخاص غير واعين ليس مسوغًا ولامبررًا لتعطيل الخدمة وحرمان البقية منها! وكان وقتها قد أبرم أكبر صفقة لتوسعة الهاتف بقيمة أحد عشر مليون ريال, هذا المبلغ الضخم ألم يشفع لاستبدال «المكنتين» في المطار واشتد النقاش بيننا, وعرضت الحلقة في المساء وفي الصباح استدعاني وزير الإعلام وكان حينها معالي الوزير محمد عبده يماني _يرحمه الله_ الذي استفسر عما جرى في الحلقة وأخبرني أن الملك فهد طلب نسخة من شريط الحلقة المذاعة وكلفني بالذهاب لقصر الملك لتسليم النسخة من الشريط, وبعد وصولي وتسليم الشريط استقبلني الملك عليه رحمة الله وكله بشر وسرور من تناول الحلقة للنقد الهادف أمام المسؤولين من الوزراء وقال: هذه البرامج التي يحتاجها المواطنون وليست مجاملات الوزراء .. وطال عمرك .. « وطالبني بتسجيل حلقة أخرى مع نفس الوزير كيال مبديًا انتقاده على وصول الرسائل التي من المفترض أن تصل لجدة ونتفاجأ بوصولها إلى صنعاء!
كان يرحمه الله متابعاً جيداً لكل ما ينشر في الإعلام وشديد الاهتمام بالنقد الموجه للوزراء والإدارات والجهات الحكومية.
اترك أثرًا في ذاكرة الناس
وشدد «كامل» على أن الإعلامي يعرف في البرامج الحوارية والتقارير والبرامج المنوعة التي تظهر مهنية الإعلامي واحترافيته وثقافته العالية لأنها هي من ستترك أثرًا في ذاكرة الناس مشيرًا إلى أن مقدم برامج الأخبار أو النشرات لا يقوم بأي جهد هو يقوم بدور مؤد فقط, كما أنه لكي ينجح المذيع أو المقدم يجب عليه أن يعرف شيئا عن كل شيء وفي كل شيء من التاريخ للجغرافيا للمواضيع الدينية والسياسية والاقتصادية والأدبية وفي كل مسارب ومشارب الحياة ليكون مخزونه الثقافي والمعرفي واسعا وكبيرا يلجأ إليه وينفرط من هذا المخزون ما يسد رمق المستمع والمشاهد في كل مجال من المجالات.
علينا أن نقسو على المذيعين
وانتقد «كامل» إعداد المذيعين في السنوات الأخيرة متمنيًا أن يتسلح الملتحقون بالإعلام «الإذاعة بشكل خاص» باللغة العربية لكون هؤلاء يباشرون أعمالهم ومازال عودهم طريًا مطالبًا في الوقت نفسه بالقسوة معهم لنستخرج منهم الدرر والجواهر كما نقسوا على الصخر فنستخرج منه الماء, وقال: عليهم أن يقدروا الغاية والقيمة والمقصد من هذه القسوة وعلينا أيضًا إيجاد مراكز تدريبية خاصة بهم فمقياس نجاح المذيع الحديث مرتجلًا, وقد كان الرعيل الأول يقفون الساعات وراء الساعات في الحج وبعض المناسبات يرتجلون الحديث ويعلقون عليه دون أن يحدثوا خطأ لغويًا أو صياغيًا في المعنى مرجعًا ذلك لوفرة ذخيرتهم الأدبية والثقافية التي ينهل منها, أما اليوم فالمذيعون يقدم لهم كل شيء ويحضر لهم كل شيء ومع ذلك كثيرًا ما يقعون في الأخطاء.
هجرة الإعلامي السعودي لهذا السبب!
كما عزى «كامل» هجرة الإعلامي السعودي لخارج دائرته الرسمية في الإذاعة والتلفزيون لنقص العائد المادي وكذلك العائد المعنوي وذلك لأن المذيع في الداخل لا يعطى حقه المادي والمعنوي بالشكل الذي تقدمه له القنوات الخاصة, كما أن المذيع يجد في قنوات الخارج سعة الشهرة لكون هذه القنوات تحظى بمتابعات وجماهيرية عربية واسعة فتسهم هي بدورها بشهرة المذيع وهذا ما نفتقده بشكل كبير في قنواتنا المحلية، وقال في إحدى الندوات الإعلامية قلت: لماذا نترك هؤلاء يهاجرون إلى محطات أخرى وينجحون بينما هم من كانوا معنا لماذا لا يخدمون وينجحون معنا؟!
هذه القنوات تقدم التسطيح والسخف!
وهاجم «كامل» بعض القنوات العربية التي تصدر التسطيح والسخف وتتاجر بالكلمة من أجل المادة أو من أجل تحقيق أهداف سياسية وإن كانت تضرب بمصالح وقيم الشعوب العربية والإسلامية متهمها بعدم الأمانة والتخلي عن قيم الإعلام الهادف النبيل الذي يقوم على الصدق والشرف والأمانة. وناشد «كامل» الإخوة الموجودين في الخارج وملاك القنوات الفضائية العربية التي تقدم برامج «يندى لها الجبين» في هذا الفضاء العربي بالقول: من غير اللائق أن تقدم البرامج التافهة والمسابقات السطحية والأعمال الفارغة التي كل الهدف منها در وجر آلاف الدولارات والجنيهات والريالات من جيوب المشاهدين والمتصلين هذه العملية النقدية على مختلف خارطة الإعلام السطحي العربي أصبحت هدفًا في الوقت الذي تهدم فيه ثقافة جيل وحضارة بلدان وسط غفلة وعدم تدخل من جهات وزارة الثقافة والإعلام في تلك البلدان العربية, مستغربًا من تقديم أسئلة بعض المسابقات ( بلد عربي من ثلاث حروف.. الحرف الأول والثالث متشابهان؟!) ووصف «كامل» ذلك بالسخف وتسطيح غير مقبول يمارس بحق أبنائنا وبناتنا وطالب تلك القنوات بأن تسمو بذوق الجيل وتسهم في توسيع وتنويع ثقافتهم, بوصفهم ناضجين ومثقفين لكن «الإعلام التجاري» مازال يجدف بهم للخلف عنوة وقسرا ويحاول جاهدًا أن يعزلهم عن حضاراتهم الحقيقية وتاريخهم المشرف المتشرب للفنون والعلوم الطبيعية والإنسانية في عهد النهضة العربية وعلى وزارات الثقافة والإعلام في البلدان العربية كلها التدخل لإيقاف هذا النزيف الإعلامي وأن يكون لها دور أعظم للنهوض بهذا الجيل واستنهاض هممه من خلال الفضاء العربي, كما هاجم «كامل» محطاتنا الأخرى المحسوبة علينا وقال: هي أيضًا لها كبوات لكنها كبوات غير مقبولة متمنيًا زوال الهدف المادي والذي بزواله ستزول تلك الممارسات والكبوات لننعم بإعلام عربي نتطلع له جميعًا.
وتابع: نحمد الله في بلادنا ومنذ بداية التأسيس وانطلاق المحطات الإذاعية والتلفزيون السعودي ورغم تعاقب القيادات الإعلامية وتباين النظرة والرؤى إلا أن المسار الهادف متمسكون به وماضون في طريق سياساتنا الإعلامية بكل ثبات منذ طلوعه الأول إلى وقتنا الحالي إعلام وقور متزن ورصين وكلمة الحق فيه هي الأساس وهي الكلمة العليا كما أن هناك قنوات عربية أخرى وقورة وملتزمة وتراعي الأمانة. كما حذر من تصديق الإشاعات المغرضة التي يسوق لها الإعلام للإساءة لبلادنا وشق الصف وتدمير اللحمة الوطنية التي عرفت بها هذه البلاد قيادة وشعبًا
واستزاد: إننا قادرون على صد هذه المكائد والإشاعات المزعومة, رغم أن الوضع ليس بالسهل لكن المواطن السعودي أثبت أنه متفتح الذهن لبيبًا حصيفًا وليس لقمة سائغة سهلة المضغ من جهات إعلامية لها أهداف دنيئة, وعلينا ان نكون حذرين منتبهين لصد هذه الإشاعات.
ندمت لأنني لم ألتحق بـ mbc
وألمح «كامل» بأنه يشعر بشيء من الندم لكن هذا الندم لا يبدده سوى أنه امتثل لتحقيق رغبة والده _رحمه الله_ والذي طلب منه أن لا يعمل في أي جهة إعلامية خارج حدود الإعلام السعودي «الإذاعة والتلفزيون» وذلك للنظرة السامية والمقاصد الشريفة الجليلة التي عرف بها الإعلام السعودي منذ بداية التأسيس في الوقت الذي كانت النظرة حول بقية غالبية القنوات الإعلامية في الوطن العربي بالضبابية المريبة وأوضح «للثقافية» أنه عرض عليه العمل في (مركز mbc) حين كان يبث من لندن, مثمنًا لمعالي الشيخ وليد الإبراهيم هذه الدعوة ليكون مديرًا عامًا (لإذاعة mbcfm ) ومشاركًا في قراءة البرامج ونشرة الأخبار لكني قدمت اعتذاري لتمسكي بوصية الوالد رغم أنه وقتها لم يكن هناك أي تلفزيون آخر كما أنني لم أكن مهيئًا للانتقال أنا وعائلتي إلى لندن. أظن وهنا أقول أظن أنه لو كنت موجودًا لتمكنت من تقديم البرنامج الشهير (من سيربح المليون) قبل أن ينضم جورج قرداحي والذي كان يعمل في إذاعة باريس حينها, قد أكون خسرت نقلة عالمية على الصعيد الإعلامي لكني راضٍ بعد كل هذا العمر وغير نادم على ذلك القرار.