علي الخزيم
الرائدُ عند العرب قديماً من يتقدّم القومَ يُبصر لهم الكلأ ومساقط الغيث؛ فالرائد لغةً: هو الذي يتقدّم الجماعةَ ليتبصّر في أمورها، ويستعلم لها الوقائع التي تتعلّق بمصالحها، وحين قالت العرب فيما مضى من زمانهم هذا المثل كانت أهم قضاياهم آنذاك تَتَبُّع مساقط الغيث ومواقع الكلأ، غير أن الحال قد تبدل اليوم وتعددت المصالح والقضايا مما يلزم معها أن يكون الرائد أميناً وطنياً صادقاً مجرباً محنكاً، ديدنه الصدق مع الأهل والرعية، يسهر على مصالحهم ويحمى ذمارهم، ويعمل على توطيد علاقاتهم بالجيرة والأصدقاء على نهج واضح قويم لا التواء يعتريه ولا عوجاً ولا امتاً.
كانت العرب -ولا زالت- تمقت زعيمها (أو من يتزعمها شغفاً بالزعامة) المائل مع أهوائه ورغباته الخاصة، أو يضعف أمام إغراءات وحبائل ودسائس جهات أو قوى محيطة تريد احتواء والتهام قومه ومقدراتهم والقضاء على تاريخهم وثقافتهم والنيل من عنفوانهم وكرامتهم، فيسارع القوم للشورى وتقويم الوضع واتخاذ التدابير الناجعة لمنع السقوط بين براثن العدو المتربص نتيجة لتهور الزعيم القاصر عن القيام بمهام الريادة على الوجه المنشود.
وتتصدر الموقف أمثلة معاصرة كما في دويلة (الحمدين) المجاورة، فلم يكن لا للأهل ولا القبيلة والشعب رأي في تنصيب من يتولى أمرهم، ولم ينتظر هو رأيهم بل قفز على كرسي الزعامة، فقالوا لعل في الأمر خيراً؛ غير أنهم لم يدركوا ما تخفيه نفسه المريضة ليتحول إلى نقمة عليهم يسومهم الحقد والبغضاء والدسائس، ويعبث بمقدراتهم ويحيك لقومه ومن جاورهم كل صنوف الغدر والخيانة، يستمتع بما يراه هو ذكاء وفطنة وبراعة سياسية بحسب إملاءات عقله الأجوف وضميره الأسود ونفسه الأمارة بالسوء، وعند شعوره ببداية انكشاف أمره وخوفه من الإيقاع به يجمع حوله الوزراء والأعوان من خارج محيطه ومن خارج البلاد، وذلك بالتمويه بجلب الخبرات عن طريق التجنيس لوزراء ومديري مؤسسات وشركات وبنوك، وابعاد أبناء الوطن الغيورين المخلصين ممن لا يسيرون بركابه ويعارضون تسلطه ونزواته العبثية، وأكثر ما يؤلم القوم الآن أن الأجوف قد اعتلى كرسي السلطة ثم ملأ فراغ عقله وطيات نفسه بما لم تأت به الأوائل بأحاييل وشراك خادعة من شأنها تفريق الامة وتسليم زمام الأمور لشذاذ فروا من أهلهم وديارهم لعلل أحاقت بهم لسوء منهجهم؛ فاحتواهم هذا المعتل وزاد بلاده وجعاً بسمومهم، وأشعل بهم الاحقاد والخلاف بين بني العم والأصدقاء، وفكك بهم روابط الدم والدين والمصير المشترك.
في الوقائع المشاهدة لا يمكن ان نُسمّي من هذا شأنه رائداً وهو يخادع الأشقاء والجيران فهو محسوب منهم وعليهم، وذلك بعد أن همَّش الشعب وقطع صلتهم بإدارة الأمور والشورى، فمهما إدعى مثل هذا المأزوم فلن يقنع الناس بتذاكيه، يقول أبو الطيب:
(وكلٌّ يَرَى طَرْقَ الشجاعةِ والنَّدى
ولكن طبع النّفسِ للنفسِ قائِدُ)
كذلك لا يجدي الظهور الزائف بالمنتديات والتجمعات الدولية:
(وما تَنفعُ الخيلُ الكرامُ ولا القَنَا
إذا لم يكُنْ فوقَ الكِرامِ كِرامُ).