أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: أسلفت في السبتية الماضية تذليل الإمام ابن حزم التعريف بالجمال، وشهدت بأنه سبق زمانه بقرون في معظم بحوثه كما شهدت بأن له مقالات لا تليق بخيالات الأطفال؛ وذلك دليل على حاجة ذي الكمال إلى عيب يوقيه من العين.. وأذكر الآن أنه منذ أكثر من عقدين صدر لي كتيب عمّن مات من الصحابة رضي الله عنهم بشهقة من جراإ ما سمعه من آيات الشرع المطهر من آيات الوعيد، ونفيت صحة ذلك بإطلاق؛ لأن أفضل الصحابة؛ وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ثم جميع إخوانه كافة بلا استثناء من الصحابة رضوان عليهم: سمعوا نصوص الشرع في الوعيد؛ فلم يمت أحد منهم بشهقة، وبيّنت: في كتابي الفحل (كيف يموت العشاق) كذب أكثر الروايات عن موت العشاق بشهقة؛ وياما أكثر ما عشقت عشقاً يجلب السهر، ويهمر الدموع بغزارة، وهي شديدة الحرارة على الوجنات؛ وما مت، ولن أموت إلا بالأجل الذي قدره لي أرحم الراحمين ربي جلّ جلاله؛ ولكل أجل كتاب.. اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، وقنا عذابك يوم تبعث عبادك، وبدل سيئاتنا حسنات، واستر علينا قبائحنا يوم يقوم الأشهاد ولاسيما النبيون عليهم صلوات الله وسلامه وبركاته، والصديقيُّون والشهداءُ والصالحون وحسن أولئك رفقاً.. اللهم أحينا ما علمت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ما علمت الوفاة خيراً لنا في غير ضراأ مضرة، ولا فتنة مضلة.. آمين آمين آمين يا رب العالمين.
قال أبو عبدالرحمن: وإنما يحدث لقليل جداً من غير الصحابة رضي الله عنهم (ودعك من أكاذيب الصوفية الحلولية الاتحادية) الذهول على طول المدى؛ ليأسه من مواصلة محبوبه، وفقده من يسليه من حبيب جديد هو أرق وأروع جمالاً يحتضنه بالعقد الشرعي، ووصاياه الكريمة المتوجة بخطبة ابن مسعود رضي الله عنه تبصّر الزوجين، وتلزمهما بحق كل واحد منهما، وبحق الأولاد والبنات وكل الرعية والأقارب والجيران.. إلخ.. إلخ.. وحديثي اليوم عن فلسفة الحب بين ابن حزم وأبي حامد الغزالي رحمهما الله تعالى؛ فأما أبو حامد الغزالي عفا الله عنه فقد أفاد من بحوث ابن حزم عن الحب، ولكنه لم يوفق في كثير منها إلى فهم فلسفة الإمام ابن حزم للحب كما هي فيما عايشه المحبون من حتميات الحب التي كانت لذيذة، ثم كانت مؤلمة، وقد ألفت (حاجي مباركة) كتاباً نالت به شهادة الماجستير بإشراف الدكتور (محمد بن بركة)؛ ولكنهما لم يوفقا معاً إلى ما أسلفته من مجانبة أبي حامد التوفيق لكثير من فلسفة أبي محمد، وما أبعد إدراك أبي حامد عن فهم قول أبي محمد رحمهما الله تعالى في قوله:
أمن عالم الأملاك أنت أم انسي
أرى هيئة إنسية غير أنه
تبارك من سوي مذاهب خلقه
ولا شك عندي أنك الروح ساقه
عدمنا دليلاً في حدوثك شاهدا
ولولا وقوع العين في الكون لم نقل
أبن لي فقد أزري بتمييزي العي
إذا أعمل التفكير فالجرم علوي
على أنك النور الأنيق الطبيعي
إلينا مثال في النفوس اتصالي
نقيس عليه غير أنك مرئي
سوى أنك العقل الرفيع الحقيقي
قال أبو عبدالرحمن: في أبيات أبي محمد هذه شُمامة من تفلسف (أفلاطون) عن المثل الأعلى، وفيها كلمات نثرية كثيرة مثل (ولا شك عندي)؛ وحسبي ههنا تِبيان أن هناك غزلاً مكشوفاً إلا أنه غير فاحش كما قي قصيدة (المنخل بن عامر اليشكري) التي طار صيتها في الآفاق، ومطلعها:
إن كنت عاذلتي فسيري
نحو العراق ولا تحوري
وكان المنخل جميلاً، وكان يعشق هندا أخت عمرو بن هند، ويشبب بها، كما رمي بالمتجردة زوجة النعمان؛ وهذا في الجاهلية؛ فقضى عليه النعمان، ولا تعرف نوعية هلاكه.. والقصيدة تغزّل لا غزل؛ فالغزل شبوب العاطفة، والتغزّل وصف يثير المتلقي؛ فكانت القصيدة جميلة مع خلل موسيقاها؛ ولكنها منسجمة بلا حوشي.. ولما ذكر العاذلة له في حبه بمطلع القصيدة: أتبع ذلك بالفخر، ومما فخر به حسبه؛ وهو عند اللغويين مفاخر الأجداد في النسب؛ ووجهوا ذلك بأن المفتخر بجدوده يعدد مفاخر آبائه وحسبها؛ والمرجح عندي أن هذا فهم خاطئ من اللغويين، وأنه ليس نقلاً عن العرب؛ بدليل أن الجد تحسب له مفاخره بغض النظر عن نسبه؛ فالحسب إذن ما يتحلّى به من الخصال الحميدة؛ فإن أعرق حسبه في سلسلة نسبه: سُمّي ذلك شرفاً؛ فإن كان الأجداد ذوي سيادة على قومهم: سُمّي عمود نسبهم إلى أول ذي سيادة منهم بيتا كبيت آل حصن في فزارة؛ وآخر فخره ما كان فخراً بقومه في قوله:
وعلى الجياد المضمرات
[م] فوارس مثل الصقور
يخرجن من خلل الغبـار
[م] يحفن بالنعم الكثـير
ثم تخلص إلى تغزّله بذكره قرة عينه بقومه، وبالجنس اللطيف؛ فقال:
أقررت عيني من (م م)
أولئك والفوائح بالعبير
وبلغة العروضيين فهذه القصيدة من مجزوإ بحر الكامل؛ والشطر الأول من البيت الأول مصرع؛ أي وزن عروضه كوزن ضربه هكذا (//ه//ه/ه /مفاعلاتن)؛ ويسمونه مرفلاً، ويدخل هذا البحر المجزوإ زحافات كثيرة، وإلى لقاء في السبت القادم إن شاء الله تعالى, والله المستعان.