د. عبدالله بن ثاني
كنت أستشعر وغيري كثير من السعوديين منذ البواكير الأولى لبث قناة الجزيرة السياسة الإعلامية غير الموضوعية تجاهنا إذ لا تحمل مضامين الإعلام الهادف في تناول الشأن الخليجي بعامة والسعودي بخاصة وكانت حساسية الدوحة مفرطة تجاه شخصياتنا الوطنية ومواقفنا العربية والإسلامية على السواء وفي الغالب كانت تقوم على تضخيم الصغائر وتصغير العظائم بل كانت تستقطب النخب العربية للمشاركة في برامجها الموجهة باحترافية لتضليل الرأي العام واللعب على حافية الزاوية دائماً والتشكيك بالمواقف السعودية والترويج للإخوان والقاعدة والبعث آنذاك على السواء، وعطفاً عليه فقد استحضرت ذاكرتي قصيدة أمل دنقل «هي أشياء لا تشترى ولو منحوك الذهب» في نهاية السبعينيات حينما جاءتني دعوة رسمية شخصية من وزارة الخارجية في الدوحة بتاريخ 25-5-1438هـ الموافق 22-2-2017م وتابعها شخصياً سفير دولة قطر في الرياض الشيخ عبد الله بن ثامر آل ثاني بخطاب يؤكد الزيارة بتاريخ 29- 5-1438هـ وتاريخ 26-2-2017م، والأعجب مع هذا الحرص أن الأمور كانت حينئذ على ما يرام في ظاهرها وفيما يبدو للعامة في ذلك التاريخ وكانت النخب آنذاك تتوافد على الدوحة زرافات ووحدانا وكان المشهد الإعلامي والثقافي حاضراً بقوة في استقطاب النخب السعودية من دعاة ومثقفين ومعارضين على السواء بكل أسف ويستثنى من ذلك بعض المسؤولين الذين تقتضي مسؤولياتهم الرسمية زيارة الدوحة، ثم انفجرت الأزمة التي تأخرت كثيراً بيننا وبينهم بعد أن بلغ السيل الزبى كما قالت العرب وبلغ الحزام الطيبين في أمثالهم بعد ثلاثة أشهر من تلك الدعوة المفاجأة، صدقاً توجست خيفة منها ابتداء بسبب سياسات الدوحة التي لم أزرها في حياتي وكان لي موقف واضح كغيري من الوطنيين من مغامراتها المستفزة، بل كنت طيلة عقدين من الزمن في مقالاتي التي نشرتها في جريدة الجزيرة معترضاً على استراتيجيتها الإعلامية والسياسية اعتماداً على أصول منهج السلف الصالح وقواعد السياسة الشرعية التي كفرت بها الدوحة أثناء الحادي عشر من سبتمبر وما يسمى بالربيع العربي وقد جمعتها في كتاب من ثلاثة مجلدات بعنوان (تفكيك التوحش - نقد وتطبيقات من الحادي عشر من سبتمبر إلى ما يسمى بالربيع العربي) فأجبت في حينها بتحفظي على زيارة قطر بسبب سياسات الحكومة في استعداء العالم الغربي على العرب في أحداث سبتمبر وتفتيت نسيج العالم العربي برعاية الثورات والتنظيمات السرة والتآمر على العرب والعبث بقوميتهم وقضاياهم المصيرية فيما يسمى بالربيع العربي والتدخل السافر في مصير الشعوب العربية وإيواء رموز جماعة الإخوان المسلمين كالقرضاوي وغيره من المرتزقة كعزمي بشارة وخنفر الذين يخططون من الدوحة لتدمير العالم الإسلامي وكان الاعتراض على المنهجية الإعلامية غير الموضوعية من قناة الجزيرة التي تبث من الدوحة تجاه بلادي وثوابتها الشامخة، وكل ذلك مثبت رسمياً ولله الحمد...
معركتي ومعركة النخب الوطنيين السعوديين الشرفاء مع قناة الجزيرة بدأت منذ ولادتها من رحم غير نزيه على يد مرتزقة الإعلام، وما زلت أذكر حينما تهجمت على الملك سلمان بن عبد العزيز وكان آنذاك أميراً لمنطقة الرياض فرددت عليهم بمقال: «وماذا بعد يا قناة الجزيرة «بتاريخ 26-8- 2000م، وصارت معركة إعلامية كان أطرافها معي الأستاذ وليد أبو الظهر في مجلة الوطن العربي الذي أغضب خليفة الحسيني في جريدة الوطن القطرية وكتب مقال «وليد أحدب نوتردام»، وتوالت المواقف من قناة الجزيرة حتى تهجم وزير الخارجية حمد بن جاسم على القيادة السعودية والأمير سعود الفيصل في لقاء في قناة الجزيرة وكان ردي عليه بمقال «وزير خارجية قطر يرى القذاة في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه» بتاريخ 9-8-2006م، ولم تسلم بقية دول مجلس التعاون من تلك الافتراءات وكان أهمها هجوم الدوحة على الكويت نصرة للإرهاب الحركي بعد أن صعد تنظيم القاعدة مواجهاته بتفجيرات مرعبة في الكويت آنذاك وكان مقالي «القضية أكبر من هذا الحل ياقطر» بتاريخ 10- 2-2005م، وكان الأولى بقطر أن تراعي مبادئ الأخوة وأهداف مجلس التعاون الخليجي ولا تنقض عرى الصلات التاريخية بين شعوب المنطقة..
تفاجأت قبلا من الوثائق التي نشرها موقع ويكيليكس عن التآمر القطري وقناة الجزيرة في الثورة التي عصفت بليبيا ومصر وكتبت عنها مقالات عديدة أيام ما يسمى بالربيع العربي وبخاصة اختطاف الإخوان المسلمين المشهد في مصر وتهييجهم للشعب في ميدان التحرير وخطب القرضاوي المباشرة آنذاك، وتفاجأت بعدًا من وثائق أبوت آباد التي نشرتها وكالة الاستخبارات الأمريكية قبل أيام فأزاحت الستار عن المزيد من أسرار العلاقات الوثيقة بين تنظيم القاعدة وقناة الجزيرة القطرية، لتؤكد الأحداث أن تنظيم الأخوان المسلمين الذي اخترق المنظومة الإعلامية القطرية كان يسعى لاستغلال القدرات القطرية لمشروعة الحركي الخاص الذي يتنافى مع مصلحة الدول العربية في تحدٍ سافر لمنظومة العمل العربي المشترك وأهداف جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وكان يجب ألا يحظى التنظيم بثقة الدوحة وهم الخائنون لأوطانهم الأم ولن يكونوا مخلصين لقطر...
تطورت الأحداث بعد كل هذه السنين، ولم تتوقف حقيقة إلا بعد تصريح الأمير محمد بن سلمان ولي العهد في المملكة العربية السعودية الأخير عن التنظيم العالمي للإخوان المسلمين وإطلاقه مسمى «الإخونجية» عليهم وكان مقصودًا من سموه، وقد استطاع حفظه الله في شهور قليلة أن يحطم طموحات الحركيين وتنظيماتهم السرية ويفتت مشروعات هذا الفكر الإرهابي الوافد الشرير وما تناسل منه من قاعدة وداعش ونصرة وتحرير في حين عجزت دول وأنظمة وشخصيات من تفكيك هذا التوحش طيلة عشرات السنين، وحبذا لو عرفت قطر أن خدمة المشروع الإيراني وأذرعته في المنطقة وأن الاستثمار في الإرهاب خطر كبير على الأسرة الحاكمة أولاً ومروراً بالشعب القطري وانتهاء بالأمة من الخليج إلى المحيط وتستحضر العقل لتعود للرحم الخليجي وتحقق شروط الدول عاجلاً من أجل مصلحتها أولاً وحبذا لو أنها استفادت من موقف المملكة العربية السعودية من رموز هذا التنظيم حينما هربوا إليها فآوتهم اعتقاداً منها أنهم مسلمون في حاجة نصرة وموقف وإيواء ولما تمكنوا خانوا الأمانة بعد أن ظهرت ملامحهم الحركية وعملهم السري الذي اخترقوا به التعليم والعمل التطوعي وأكد ذلك الأمير نايف رحمه الله وزير الداخلية في حديثه المشهور في جريدة السياسة: «أقولها من دون تردد أن مشكلاتنا وافرازاتنا كلها - وسمِّها كما شئت - جاءت من الاخوان المسلمين وأقول بحكم مسؤوليتي أن الاخوان المسلمين لما اشتدت عليهم الأمور وعلقت لهم المشانق في دولهم لجأوا إلى المملكة وتحملتهم وصانتهم وحفظت حياتهم بعد الله وحفظت كرامتهم ومحارمهم وجعلتهم آمنين. إخواننا في الدول العربية الأخرى قبلوا بالوضع وقالوا: إنه لا يجب أن يتحركوا من المملكة, استضفناهم وهذا واجب وحسنة بعد بقائهم لسنوات بين ظهرانينا وجدنا أنهم يطلبون العمل فأوجدنا لهم السبل ففيهم مدرسون وعمداء, فتحنا أمامهم أبواب المدارس وفتحنا لهم الجامعات, ولكن للأسف لم ينسوا ارتباطاتهم السابقة فأخذوا يجندون الناس وينشئون التيارات وأصبحوا ضد المملكة والله تعالى يقول «وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان» هذا ما نعرفه لكن في حالهم الوضع مختلف على الأقل كان عليهم ألا يؤذوا المملكة إذا كانوا يريدون أن يقولوا شيئا عندهم لا بأس ليقولوه في الخارج وليس في البلد الذي أكرمهم». فاعتبري يا قطر، وتأكدي أن هناك أشياء لا تشترى... والله من وراء القصد.