د. سليمان بن عبد الرحمن العنقري
نعم يا رب الأرباب لكل أجل كتاب.. لا راد لقضائك ولا مقدر لآجالك، لك الخلق ولك الأمر خلقت الخلق ومن ثم خلقت الموت والحياة لتبلونا أينا أحسن عملاً.
لقد قلت وقولك حق: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}.
الكل مفارق هذه الدنيا وتاركها هذه سنة الله في خلقه عجلة تدور تبدأ من ساعة الميلاد وتقف عند ساعة الميعاد وعندها تبدأ رحلة جديدة تبدأ من المواراة في بطن الأرض حتى يأذن الله جل وعلا بالخروج منها إلى الحياة الأخروية الدائمة دار البقاء والهناء إن شاء الله.
ودع الآف المشيعين بمحافظة الزلفي يوم الجمعة 21-2-1439 هـ علماً من أعلام هذا الوطن وركناً من أركان مجتمعه الأستاذ والمربي الجليل محمد بن أحمد الملحم الذي انتقل إلى جوار ربه في مشهد مهيب يترجم ما لهذا الفقيد الكبير من مكانة وتقدير في نفوس أولئك المشيعين مودعاً حياتنا الدنيا ودنيانا الفانية بعد حياة طويلة ومسيرة أعمال متعددة يأتي في مقدمتها أجل الأعمال وأفضلها إمامة مسجد الملحم غرب المحافظة متزامناً مع إدارته لما يقارب من نصف قرن من الزمن لأقدم مدرسة نظامية بالمحافظة والتي تولى دفة إدارتها منذ مطلع عام 1376هـ حتى تقاعد عام 1409هـ واجه خلالها ولا سيما في السنوات الأخيرة الكثير من الجحود والنكران ممن كانوا يؤمل فيهم على أقل تقدير تقدير مسيرته العلمية مديراً لأقدم مدرسة بالمحافظة ومربياً فاضلاً لأجيال متعاقبة حيث إنه تخرج على يديه الآلاف من الطلاب تقلد الكثير منهم مناصب عليا في الوطن مع ما صاحب من العطاء والبذل لأعمال الخير لمحافظته وأهلها التي كان يؤديها منذ عودته من خارج المملكة وتحديداً من مدينة الزبير في العراق متسلحاً بسلاح العلم حيث كان رحمه الله يقوم بأعمال جليلة متعددة منها كتابه الوصايا وتوثيق الأوقاف وكتابه البرقيات والرسائل والوكالات وكان له خط جميل يعرفه كل من له حظ في التعليم وكان اهتمامه بطلاب مدرسته التي كان يديرها والتي كانت تسمى (المدرسة السعودية الأولى) مضرب مثل على مستوى المنطقة بمساعدة وكيل المدرسة الأستاذ عبدالمحسن بن عبدالله الطريقي وكوكبة من المعلمين الأفاضل الجادين والمخلصين في عملهم يأتي في مقدمتهم الشيخ فالح الرومي، الشيخ عبدالله الداود، الشيخ ابراهيم الذييب، الأستاذ سليمان بن حجي الشايع، الأستاذ محمد بن سليمان العراجة، الأستاذ سليمان المعتق وابن أخيه الأستاذ عبدالله المعتق، وابن الخالة الأستاذ عبدالله المحيا، الأستاذ محمد بن سليمان الخزعل العصيمي، الأستاذ عبدالرحمن الذييب والأستاذ دخيل الملحم رحم الله من مات منهم وأمد الله في عمر الأحياء منهم على طاعته وعذراً لمن لم يحضرني اسمه إضافة إلى كوكبة أخرى من المعلمين من خارج الوطن من مصر وسوريا والأردن وفلسطين.
وكانت المدرسة السعودية الأولى تحت قيادة ربانها ومديرها الأستاذ محمد بن أحمد الملحم تشكل أسرة تربوية واحدة ونموذجاً تربوياً متميزاً شعلة من النشاط في كل المجالات الصفية واللاصفية بما في ذلك النشاط الاجتماعي والرياضي حيث كانت المدرسة تحصد الجوائز والكؤوس في معظم المسابقات التي تقام على مستوى محافظات منطقة الرياض كما كان للمدرسة قصب السبق في معظم المسابقات والأمسيات الثقافية والاجتماعية تحت قيادته وتوجيهه رحمه الله وبمشاركة معظم مدرسي المدرسة في ذلك الوقت... ومما يجهله الكثير أن أستاذنا الفاضل رحمه الله كان لا يستمتع مثل غيره بمعظم الإجازات الصيفية للمدرسين، بل كان يفتح فصولاً دراسية للطلاب الذين لم يحالفهم التوفيق بالنجاح واجتياز الصف السادس الابتدائي أي المرحلة الابتدائية والتي تعد مرحلة مهمة في ذلك الوقت تندب لها اللجان من خارج المحافظة وتطبع أسئلتها في جهاز وزارة المعارف على مستوى المملكة آنذاك.
إن الحديث عن الأستاذ محمد بن أحمد الملحم يحتاج إلى استخدام مفردات جديدة تكافئ قدر من أتحدث عنه لكنها أحاسيس ومشاعر أحد تلاميذه أبت إلا أن تظهر وكلمات وحروف اختلجت بها النفس شكراً وعرفاناً للراحل الكبير انطلقت لتعبر عن مكنونات أحد أبنائه الذين يكن له كل محبة وتقدير، لقد خلف الراحل الكبير إرثاً يشهد به القاصي قبل الداني وخلف من الأعمال الجليلة والمواقف العظيمة ما يجعله حاضراً في قلوب كل محبيه وكل من تتلمذ على يديه علماً أن كل ما كتب عنه أو سوف يكتب عنه لم ولن يوفيه حقه ولكن من باب التذكير لمن سمع عنه ولم يره من الأجيال القادمة.
وصدق من قال:
وليست الرزيئة فقد مال
ولا فرس تموت ولا بعير
ولكن الرزيئة فقد حر
يموت بموته خلق كبير
أحسب أن أستاذ الأجيال المتعددة قد استراح إن شاء الله في روضة من رياض الجنة استراح من تعب الدنيا وعنائها وكبدها ونصبها فرحم الله المربي الكبير والمعلم القدير والمدير الفاضل والمحسن الجليل بماله وقلمه راجياً من إدارة التعليم بمحافظة الزلفي إطلاق اسمه على مدرسته التي رعاها وأدارها بحكمة وروية لما يقارب من نصف قرن أو أي مدرسة أخرى بالمحافظة عرفاناً وتقديراً للمربي الكبير والمدير القدير.
وهذا المقترح ينسحب على كثير من العلماء والمشائخ الذين سبقوا الراحل من معلمي الكتاتيب وإمامة المساجد ومن عاصروه أو جاءوا بعده من مديري المدارس النظامية من الرعيل الأول الذين اضطلعوا بكثير من المسؤولية في التعليم والتدريس لأجيال متعاقبة صغاراً وكباراً وساهموا مساهمة فعالة في النهضة التعليمية بالمحافظة وكانت لهم جهوداً مشكورة في بدايات التعليم في نجد في زمن يندر فيه فك الخط (إن صح التعبير)، يأتي في مقدمة هؤلاء الشيخ فالح الصغير، الشيخ محمد العمر، الشيخ محمد بن منيع، الشيخ حمدان الباتل، الشيخ أحمد العيد، الشيخ عبدالرحمن الفالح الذي افتتح وتولى إدارة أول مدرسة بمحافظة الزلفي عام 1369 هـ، الشيخ محمد بن سليمان الذييب، الشيخ زيد المنيفي والأستاذ عبدالله السلامة مدير معهد المعلمين رحمهم الله جميعاً، الأستاذ الفاضل عبدالله بن محمد السيف الذي تولى إدارة ابتدائية الفيصلية ومتوسطة ابن تيمية لأعوام عديدة، ولا ننسى جهود معالي الشيخ الوالد سليمان بن عثمان الفالح الذي كانت له اليد الطولى في تأسيس وإدارة معهد الزلفي العلمي والذي افتتح عام 1382هـ واستقطب الكثير من أبناء المحافظة بجهود مشكورة يعلمها الجميع لا مجال لذكرها الآن فكان هذا المعهد خير رافد لكليتي الشريعة واللغة العربية نواة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية والذي تولى الكثير منهم بعد تخرجهم مناصب عليا في سلك القضاء والسلك الأكاديمي أساتذة في جامعة الإمام والجامعة الإسلامية إضافة إلى السلك التعليمي العام والوظيفي العسكري والمدني في كثير من قطاعات الدولة فلا أقل من أن نطلق أسماء هؤلاء المشايخ والعلماء الأفاضل ومديري المدارس على مدارس المحافظة بمراحلها المختلفة تقديراً لما قدموه وعرفاناً بجميل ما صنعوه، كما أجدها مناسبة للتذكير والإشادة بجهود الوجيه حمود الطريقي (الرويبخ) رحمه الله الذي لم يكن له حظ من التعليم فضلاً عن أن يساهم فيه إلا أنه ساهم في مجالات أخرى وإبداعات متعددة يأتي في طليعتها تأسيسه لأول شركة كهرباء بالمحافظة فكانت له اليد الطولى والسابقة في إنارة المحافظة بحهود ذاتية قبل كثير من محافظات وقرى نجد فلا أقل من يطلق اسمه - رحمه الله - على أحد الشوارع الرئيسة بالمحافظة تقديراً لجهوده وعرفاناً بجمائله. كما يجب أن نتذكر معالي الشيخ عبدالله الطريقي أول وزير للبترول والأديب الموسوعة غانم الغانم والشاعر الكبير أحمد النار الشايع.
كما لا ننسى جهود رجال أفاضل قدموا وساهموا في كثير من المناشط وأعمال الخير بتنوعها وبذلوا الغالي والنفيس في سبيل النهوض بالمحافظة وخدمة أهلها يأتي في مقدمة هولاء مع حفظ الألقاب عبداللطيف ومحمد الفوزان اللذين تجاوز ما قدماه للمحافظة المئة مليون
ريال، محمد العلي العبداللطيف (الغزالي)، محمد وعبدالله وعبدالرحمن الفالح، تركي وعبدالرحمن الطوالة، إبراهيم الأومير، جارالله العضيب، فوزان الفهد وعبدالرحمن الحلافي رحم الله من توفي منهم وأمد الله بعمر الأحياء على طاعته فكانوا ينابيع خير وأنهاراً متدفقة بعطائهم السخي وبذلهم المشكور.
وفي الختام أرجو من كل من تتلمذ على يدي أستاذنا الراحل محمد بن أحمد الملحم وحظي بتربيته وتعليمه ووقفاته المعنوية والمادية ببذل أصدق الدعوات وأعظم الابتهالات بأن ينزل أبي عبدالرحمن منازل الأبرار والصديقيين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً وأن يجعل قبره روضة من رياض الجنة جزاء ما قدمه من أعمال جليلة وخيره وعزائي الخاص لأولاده البررة الذين رباهم أحسن تربية ديناً وخلقاً وعلمهم أحسن تعليم فحصلوا أعلى الشهادات وتقلدوا المناصب المتعددة وساهموا في بناء هذا الوطن كل حسب تخصصه في عدة مجالات إدارية وتعليمية وعسكرية والعزاء موصول لإخوانه الأستاذ دخيل والأستاذ صالح والأخ راشد ولكل عائلة الملحم في جميع مناطق المملكة ومعارفه ومحبيه.
وصدق الشاعر الذي يقول:
الذكر يبقى زماناً بعد صاحبه
وصاحب الذكر تحت الأرض مدفون
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..