نجيب الخنيزي
في خطوة تاريخية غير مسبوقة أصدر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز بتاريخ 4 من شهر نوفمبر الجاري أمرًا ملكيًّا بتشكيل لجنة عليا برئاسة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وعضوية رئيس هيئة الرقابة والتحقيق، ورئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، ورئيس ديوان المراقبة العامة، والنائب العام، ورئيس أمن الدولة.
وجاء في الأمر الملكي التاريخي: «ونظرًا لما لاحظناه ولمسناه من استغلال من قِبل بعض ضعاف النفوس الذين غلّبوا مصالحهم الخاصة على المصلحة العامة، واعتدوا على المال العام دون وازع من دين أو ضمير أو أخلاق أو وطنية، مستغلين نفوذهم والسلطة التي ائتُمنوا عليها في التطاول على المال العام، وإساءة استخدامه واختلاسه متخذين طرائق شتى لإخفاء أعمالهم المشينة، ساعدهم في ذلك تقصير البعض ممن عملوا في الأجهزة المعنية، وحالوا دون قيامها بمهامها على الوجه الأكمل لكشف هؤلاء مما حال دون اطلاع ولاة الأمر على حقيقة هذه الجرائم والأفعال المشينة.. وقد حرصنا منذ تولينا المسؤولية على تتبُّع هذه الأمور انطلاقًا من مسؤولياتنا تجاه الوطن والمواطن، وأداء للأمانة التي تحملناها بخدمة هذه البلاد ورعاية مصالح مواطنينا في جميع المجالات، واستشعارًا منا لخطورة الفساد وآثاره السيئة على الدولة سياسيًّا وأمنيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، واستمرارًا على نهجنا في حماية النزاهة ومكافحة الفساد والقضاء عليه، وتطبيق الأنظمة بحزم على كل من تطاول على المال العام، ولم يحافظ عليه أو اختلسه أو أساء استغلال السلطة والنفوذ فيما أسند إليه من مهام وأعمال، نطبق ذلك على الصغير والكبير، لا نخشى في الله لومة لائم، بحزم وعزيمة لا تلين، وبما يبرئ ذمتنا أمام الله سبحانه ثم أمام مواطنينا.. وإيمانًا منا بأنه لن تقوم للوطن قائمة ما لم يتم اجتثاث الفساد من جذوره، ومحاسبة الفاسدين وكل من أضر بالبلد وتطاول على المال العام».
وقد بدأت على الفور إجراءات تنفيذ الأمر الملكي؛ إذ جرى إيقاف العشرات من المسؤولين الحاليين والسابقين، ومن ضمنهم أمراء وزراء، إلى جانب العديد من رجال الأعمال، في إجراء يشدد على أنه لا حصانة لأي كائن من كان، وبأن جرائم الفساد لا تسقط بالتقادم؛ إذ فُتحت ملفات قديمة، مثل كارثة سيول جدة (2010)، ووباء كورونا (2013)، وغيرهما من الملفات والقضايا المرتبطة بالفساد، التي كلفت الدولة مئات المليارات من الريالات. هذا، وقد بلغ عدد الحسابات المجمدة حتى الآن أكثر من 1700 حساب، وهو رقم مرشح للزيادة في أية لحظة.
في الواقع، الفساد ظاهرة قديمة، وتعود تاريخيًّا إلى المراحل الأولى لتشكل المجتمعات (العمران البشري) والدول. كما احتل موضوع الفساد حجر الزاوية في النظام الأخلاقي/ القيمي لجميع الحضارات والأديان، وفي مقدمتها الإسلام. قال تعالى: {... وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} الآية.
الفساد باختصار هو الاستغلال البشع للوظيفة العامة أو الموقع الرسمي لخدمة المصالح الشخصية أو العائلية أو القبلية، وهو غالبًا يكون على حساب تغييب معايير العدالة والنزاهة والمساواة والتكافؤ بين الناس والجماعات.
من هنا تنبع الأهمية الاستثنائية لتشكيل اللجنة العليا لمكافحة الفساد التي تتمتع بصلاحيات واسعة، من بينها: حصر المخالفات والجرائم والأشخاص والكيانات ذات العلاقة في قضايا الفساد العام.
- التحقيق، وإصدار أوامر القبض، والمنع من السفر، وكشف الحسابات والمحافظ وتجميدها، وتتبُّع الأموال والأصول، ومنع نقلها أو تحويلها من قِبل الأشخاص والكيانات أيًّا كانت صفتها، ولها الحق في اتخاذ أي إجراءات احترازية تراها حتى تتم إحالتها إلى جهات التحقيق أو الجهات القضائية بحسب الأحوال.
- اتخاذ ما يلزم مع المتورطين في قضايا الفساد العام، واتخاذ ما تراه بحق الأشخاص والكيانات والأموال والأصول الثابتة والمنقولة في الداخل والخارج، وإعادة الأموال للخزانة العامة للدولة، وتسجيل الممتلكات والأصول باسم عقارات الدولة، ولها تقرير ما تراه محققًا للمصلحة العامة، خاصة مع الذين أبدوا تجاوبهم معها.