مها محمد الشريف
في المنفى يبحث المهاجرون عن الأمان ويقتفون أثر الخبر في قائمة الصحف القديمة، ويتجولون بين الأعمال والأغنيات ينظرون إلى أماكن العبادة بمزيد من التوقير، وتشخص أبصارهم عالياً تبحث عن المآذن المزخرفة التي كانوا يرونها في أوطانهم، وفي نفس الوقت تمجد أرواحهم الحرية التي رحلوا من أجلها عن بلدانهم، فالعيش وفق الطبيعة يضمن تطبيق قانون كلي على الجميع دون استثناء، ومع ذلك يظل المغترب محكوم الرؤى والطموح، ما يجعل الظلام يطول أمده وتعود الشمس إلى كونها دون أن تأخذ جزءاً من الليل.
وهكذا ترتد الحياة على أعقابها عندما تسكن الروح المساحات الغائبة عن إدراكها لمعنى العيش، 30 عاماً قضاها الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري في العاصمة التشيكية براغ المدينة الهادئة المتناغمة مع السلام، جعلته ينظِّم بحقها 15 قصيدة تثني على البلد والمدينة.
وبالنظر إلى واقع إنسان غير آمن تظهر في حياته نزعة شكية في الثقة والقناعة، وتستعصي حلول السكينة الحقة أو طمأنينة النفس، ويؤثر ذلك سلباً على حياته ويقينه وتستبعد الافتراضات التي تحتاجها آماله وأحلامه، وكما كُتب عنه في السير والكتب، أنّ للسياسة نصيباً وافراً من قصائده للحقبة التي عاش فيها مع الثورات فكان يسخر القوافي للأحداث السياسية.
حمل هموم أُمته وساهم بشعره من المنفى في نكبة القومية العربية وأيقظ الروح من السبات، لتكون السياسة منطلقاً ذاتياً لهمومه وكتابة الرسائل المختومة. ورغم ما سبق من قوله، إذ، يبدو أنه ليس من الذكاء في عرف الشعراء المعاصرين المشاركة في الأحداث السياسية اليوم، التي تخبرنا بما يحمل كل منهم من معادن. يسكب نفسه بنفسه شعراً ينطوي على معانٍ لا تقف عند حدودها، فالإنسان جسد الأحداث والشعر فكره.
بمعنى أنّ الأحداث تدفعنا لحزم أمرنا، أما القلق واليأس فهما الشيئان المتساويان في مفهوم جميع القضايا التي تدور في بلاد الجواهري والوطن العربي، فقد كتب وأنشد للعرب جميعاً .. أنشد للمظلومين في فلسطين، أنشد لمصر وسوريا، والجزائر، وتونس، وبقية أرجاء الوطن العربي، أما قصائده الذائعة الصيت «غاشية الخنوع»، و»فاحت جروح فلسطين» و»باق أعمار الطغاة قصار» و»الثورة السورية»، و»أطبق دجى» و»يوم الشهيد» و»أخي جعفر»، و»يا دجلة الخير» و»يا أُمتي يا عصبة الأمم».. هكذا يبدو لي الأمر، يختار الشاعر ما يناسب الزمان الذي يعيشه مواكبة الرأي العام في مواقع التواصل، ويتجاهل غيرها من القضايا السياسية والملفات الشائكة، ويبتعد كثيراً عن الشأن السياسي منفصلاً عن الأحداث، فقد كان للجواهري شعر ملتزم واعٍ للظرف السياسي، كما قيل عنه ولم يكن من قبيل المصادفة. قصائده مليئة بوصف المحاربين لا الحرب تزمجر الكلمات غضباً من سوء أحوال الوطن العربي آنذاك، ويشبه بالوصف حال اليوم من ملفات سياسية في سوريا والعراق واليمن وليبيا ولبنان.