د. عبدالحفيظ عبدالرحيم محبوب
تراجع الفساد في المملكة العربية السعودية من 48 عام 2015 إلى 62 في عام 2016 (وفقًا للمعيار العالمي فإن القريب من الصفر يعني ارتفاع معدل الفساد، وكلما اقترب من المائة انخفض معدل الفساد)، ورغم ذلك تطمح السعودية إلى أن يتراجع الفساد لديها على غرار دول مثل الدنمارك ونيوزيلندا التي حصلت على 90 نقطة، وفنلندا والسويد وسويسرا والنرويج بين 89 - 85، وسنغافورة وهولندا وكندا وألمانيا وبريطانيا ولكسمبورج بين 84 - 81 نقطة، وتذيلت الصومال الترتيب بعشر نقاط وكوريا الشمالية وسوريا واليمن والسودان وليبيا وأفغانستان والعراق وفنزويلا بـ17 نقطة.
مشروع نيوم كان أفضل طريقة لتسويق طموحات السعودية دوليًّا، والإصلاح في سوق السعودية واسع جدًّا ومتعدد الجوانب، لكن من أجل أن تسير السعودية في الاتجاه الصحيح عليها أن تثبت للعالم أنها قادرة على كبح جماح الفساد من أجل أن يتدفق العالم على السعودية، أي إرساء الثقة فوق أنقاض الفساد.
لا يمكن أن تفرض السعودية نفسها على خريطة العالم الاقتصادية، وتفطم نفسها من الاعتماد الكامل على مداخيل النفط، وتتخلص من عبودية النفط، إذا لم تواجه الفساد المتجذر خلال فترة طويلة من الزمن، الذي ساهم في هدر المال العام، وخصوصًا أن الاتهامات التي وُجِّهت للموقوفين، منها غسل الأموال، وتقديم الرشا، وابتزاز بعض المسؤولين، واستغلال النفوذ لتحقيق مصالح شخصية.
الرسالة التي أرادت الحملة إرسالها ضمن متغيرات متتابعة وسريعة وجريئة تؤسس لمرحلة جديدة من عهد الدولة السعودية، يمكن تسميتها بالدولة السعودية الرابعة. قد يعتبر البعض أن الحملة إجراء استباقي لإعادة تشكيل الاقتصاد والمجتمع في أكبر دولة مصدِّرة للنفط في العالم، لا يبلغ ناتجها المحلي في عام 2016 سوى 2.59 تريليون ريال (نحو 690 مليار دولار)، فيما الناتج الإجمالي لدولة صغيرة مثل هولندا 660 مليار دولار، وجزيرة صغيرة جدًّا مثل سنغافورة نحو 360 مليار دولار، وهو يساوي الناتج المحلي الإجمالي لدولة ماليزيا التي كانت منضمة إليها، ولكن لم تمكث سوى سنتين ورفضتها ماليزيا.
رغم أن البعض يسميها مغامرة خطيرة، لكن يبدو أن الملك سلمان وولي عهده الأمير محمد بن سلمان قَبلا التحدي، ولم تعد تجدي المقايضات والمجاملات.. والسعودية كدولة جديدة تثبت للعالم أن من يمارس الفساد حتى لو كان من القيادات الكبيرة، سواء من الأسرة الحاكمة، أو من الوزراء، أو المسؤولين الكبار في الدولة، ليسوا بمنأى عن المساءلة القانونية، وهي بمنزلة تحقيق العدالة والمساواة، لم تعهدها السعودية من قبل.. ومن غير المقبول ربط الحملة على الفساد بمسارات أخرى من أن ولي العهد بحاجة إلى سلطات إضافية رغم أنه يمتلك كامل السلطات والصلاحيات؛ فهو ليس بحاجة إلى سلطات إضافية إلى السلطة التي منحه الملك إياها، وحصل عليها من بيعة الشعب.
مبادرة مستقبل الاستثمار منحت الشفافية لرؤية السعودية 2030.. وما الحملة على الفساد سوى إصرار على إزالة العقبات التي تعرقل مسيرة الإصلاح التي بدأت منذ تولي الملك سلمان بن عبد العزيز الحكم، وتولى ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الإشراف على السياسات الاقتصادية والدفاعية للسعودية.
الحملة على الفساد بهذا الحجم، وبهذه الوتيرة، أتت من أن الإصلاحات لا تتحرك بالسرعة المطلوبة، رغم أن هناك قراءات وتحليلات عديدة، اعتبرتها انتقائية، وأنها لم تكن عبر مؤسسات قانونية، وأنها تركيز للسلطة، لكنها خطوة تحظى بشعبية، وهو أمر منطقي، وتسريع لتحريك عجلات صنع السياسات بشكل أسرع، وهي التي ترد على مثل تلك القراءات.. وستواصل السعودية الجديدة مسيرتها دون الالتفات لمثل تلك الانتقادات أيًّا كانت، سواء كانت حاقدة على السعودية، أو تقدم نظرات مؤسسية من المؤكد أن الدولة ستتجه نحوها خلال مسيرة التحول.
ومن يخشى من نزوح الأموال للخارج أكثر من ذي قبل فالصحيح أن الحملة تجعل معظم البيروقراطيين والفاسدين مذعورين، وفي حالة قلق، لكن في الوقت نفسه الحملة على الفساد تخلق بيئة جاذبة للاستثمار على المدى القريب والمتوسط والبعيد، وستصبح السعودية في قائمة الدول التي ينخفض فيها الفساد.