د. إبراهيم بن محمد الشتوي
كان هذا العنوان قد خطر في بالي منذ زمن، وكنت أعتزم أن أجعله عنوانا لمقالات في هذا الموضوع، ثم سمعت معالي الأستاذ ثامر السبهان وزير الدولة يستعمل هذا التركيب. وقد جال في خاطري حينها أن أبحث عن عنوان آخر، لا يكون قد خطر في بال أحد من قبل، لكنني بعد التأمل وجدت أن استعمال هذا التركيب من قبل لا يؤثر على جدته، ولا يعدو أن يكون مما وصفه القدماء بوقع الحافر على الحافر الذي تتشابه فيه الأقوال دون علم من اللاحق عن السابق، ومع أن تحديد السابق واللاحق في هذا الموقف ليس واضحا، بناء على أن هذا التركيب قد خطر في بالي قبل أن أقرأه في وسائل الإعلام منسوبا إلى معالي الأستاذ بمدة طويلة، وكنت أسوف كتابة المقالة أو أسدد ديوانا كتابية سابقة كنت قد عقدت العزم على الكتابة عنها، فهو إذاً ليس من «السرقة» في شيء، وربما يتصل بما يصفه المعاصرون بالتأثر والتأثير، وهو ملمح إيجابي، على أن القدماء قد اعتبروا أن التشابه في الأقوال دون معرفة اللاحق للسابق لا يعد في السرقة الأدبية في شيء، ومهما يكن، فإن ظهور تصريح معالي الوزير قبل كتابة هذه المقالة يجعل في ذمتي هذا البيان.
ويبدو من خلال هذا التركيب أن «داعش» تأخذ مكان الصدارة من الاهتمام، والتركيز، في حين يأخذ ممن كان على شاكلتها من الجماعات على وجه الخصوص وغيرها ممن يتفق معها، ويشبهها مكان الهامش، كـ «القاعدة» مثلا، حتى لو كانت هذه الجماعات سابقة «لداعش» في التكون، وربما غالبة لها في الانتشار.
وهذا الجمع بينهما ليس لهوى في نفس يعقوب، ولا بناء على معلومات تاريخية محددة تقضي بأن هذه الجماعات هي من أخوات داعش في النسب، وتقوم بينها صلات في السياسة، وإن كان هذا موجودا، يثبته أن كثيرا من أفراد تلك الجماعات وأنصارها يتنقلون بين جماعة وأخرى، فمن يعلن انتسابه إلى القاعدة لا يبعد أن تجده يوما آخر وقد انتسب إلى «داعش»، أو إلى «النصرة»، ومن كان في «داعش» قد يكون في يوم آخر في «النصرة» أيضا.
والانتشار الذي تحققه هذه الجماعات ليس بسبب الانتصارات العسكرية بقدر ما هو بسب تغير الولاءات، والتقلب السريع للأفراد، والقيادات في انتماءاتهم التنظيمية، والسبب في ذلك التشابه - وهو القضية المهمة - في الخطابات الفكرية، والسياسية، وكذلك الأهداف الاجتماعية. الأمر الذي يجعل هذا التغيير لا يعدو أن يكون بمثابة تغيير «الشعار» (Tag) الذي يضعه على صدره، لا يكلفه شيئا على مستوى المبادئ، ولا على مستوى المفاهيم والمعلومات، ولا على المستوى المادي بوصف أن موقعه في السلم الهرمي لم يتغير، بغض النظر هل هي متناحرة أم متصالحة، متصادقة لأن هذا العلاقة تقوم على المصالح الشخصية للقيادات بمستوياتها المختلفة.
ومن يتأمل في الخطابات الفكرية، والمرجعيات، والأصول العلمية، والأهداف والغايات لكل جماعة من هذه الجماعات يجد مصداق ذلك، فهي ترفع القضايا نفسها، وتحيل إلى مصادر علمية، وأصول واحدة، والمرجعيات الأولى واحدة، ومسألة الصدق والكذب في الاتصال بالشعار المرفوع والرغبة في تمثيله ليست مسألة يسيرة الإثبات أو النفي ما دامت تتصل بما يدور في الضمائر، والأخطاء التي قد يعدها بعض الناس دليلا على ذلك هي في الحقيقة موجودة عند كل الجماعات في القديم والحديث، مما يقلل إمكانية اتخاذها دليلا على شيء في حالة لا تدل عليه في حالة أخرى.
وهذا الظهور «لداعش»، واحتلالها المركز بين هذه التنظيمات في التركيب السابق، بناء على ما تحتله في أرض الواقع من اهتمام في وسائل الإعلام، وفي خطابات المعنيين بهذا الأمر، وما تحتله أيضا في الواقع من أرض تمتد بين العراق والشام كما في تسميتها.
وأيا ما يكن، فإن «داعش» قد مثلت بحضورها، وتحولها -كما تزعم - من طور الجماعة ذات الأدوار والإمكانيات المحدودة، إلى الدولة بجميع جوانبها، وتنوع مستوياتها، مثلت ظاهرة تستحق النظر، والتحليل من زوايا مختلفة.
لا أقصد زاوية التكوين والنشأة التي يطرحها كثير من الإخوة، والقائم على اعتبارها صنيعة الحكومة السورية، أو الإيرانية، وتابعة لهما، ولا أقصد من زاوية ارتباطها بما تعلنه من مبادئ، وتزييفها للحقائق رغبة في تحقيق أجندة معينة، وإنما أقصد من جهة ثقافية بحتة، بوصفها حالة اجتماعية تاريخية تنهض بدور معرفي ثقافي اجتماعي يأتي السياسي فيه هدفا ثانويا، وهو ما سأتحدث عنه في المقالة القادمة.