د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
«إلى الأخ الصديق إبراهيم الشمسان. رسوم طريق أو أوهام رسوم قطعها كلُّ أبناء جيلي سهْلَها وحَزْنَها، أو حلّق بعضهم وانقطعتْ ببعضهم، وفيها صادفوا موارد الصّفاء وتِيه الحيرة، وتراءت لبعضهم وهم يقطعونها آفاق واسعة بحجم حلمهم. (الشارقة 21/05/ 2017 حمّادي صمّود)».
بهذا الإهداء المتميز الذي يزوي مفاصل الكتاب تلقيت نسخة من تحفة أستاذنا الفاضل حمّادي صمّود (طريقي إلى الحرية)، وكانت السمعة العلمية العالية حملت إليّ اسم هذا العالم المبدع، فلما شاء الله أن أراه وأشاركه العمل في مجلس أمناء مركز الملك عبدالله الدولي لخدمة اللغة العربية وجدته فوق ما وقر في نفسي من صفاته، علم غزير وإحاطة بدقائق القضايا وحسن تعبير عن المقاصد، كل ذلك مؤيد بسلامة النوايا، ومزين بتواضع جمّ ودماثة خلق. وحين شرعت في قراءة الكتاب بدأت تتعمق المعرفة به، وجدته يتحدث عن ظروف وأحوال إن لم أمرَّ بها عينها مررت بما يناظرها من قريب أو من بعيد، كلانا من مواليد 1947، حديث عن شظف العيش وقلة ذات اليد وكفاح الأسرة ثم تيسير الدولة سبل التعلم والترقي الجاد في معارجه ثم حديثه عن أحوال الأقسام العلمية التي ننتمي إليها بضعفها أو قوتها بنزاهة بعض أفرادها أو التواء بعضهم، وعن قضايا التعريب ومشكلات البحث، ثم هذا الحديث الصادق عن الكتاب العربي الذي «يُكتب عامّة وصاحبه يجهل أو يتجاهل الكتب المكتوبة قبله في موضوعه وبدؤه وتاريخه. وليس الأمر كذلك في كتب الفِرنجة وفي دراساتها بالخصوص. فكثيرًا ما تكون الهوامش [الحواشي] والإحالات فيها في قيمة النّص إن لم تتجاوزها. وكلّ كتابة عندهم بناء على ما سبق وإن كان بدحضه وبيان تهافت ما بُني عليه من مقالات. وهذا ما يسمّى بمصطلح جارٍ في الاستعمال ولكنّه عزيز المنال هو (التّراكم). والمؤمنون به مقتنعون أنّ المعرفة ليست عودًا على بدء وإنجازًا غير مسبوق، وإنّما هي الجهد ينضاف إلى الجهد وإن لم يكن منسجمًا معه وعلى منوال غير منواله وأنّ بناء المعرفة عمليّة نقاش ومناظرة يصل إلى حدّ الجدل وتأسيس على ما سبق». هذا شأن الكتاب، وشأن ما يسمى بالبحث العلمي والرسائل الجامعية التي قد تقبل لجدّة في عنوانها، وإن كانت خاملة الموضوع مختلة المنهج ضعيفة النسج، وأخرى يُلوى بها ويُعصف بصاحبها وتُسدّ أمامه السبل؛ لأنّ عنوانات مفردات ما يتناوله موضوع رسالته مما سبق ظهوره في أعمال أخرى، وكأنّ تلك الأعمال قالت الكلمة الفصل وختمت القضية بما لا مزيد للقول فيه، وكأنه كلام لا يقبل النقاش ولا المراجعة ولا التقويم أو الإضافة أو النقض، وفي كلّ هذا عناد لمبدأ المنهجية العلمية التي أشار إليها أستاذنا بمصطلح (التّراكم) الذي لولاه ما قامت لحضارة البشر قائمة. وكذلك وجدت أستاذنا يتحدث أيضا عن علماء عرفتهم عن قرب تحدثت إليهم وتعلمت منهم، جابر عصفور، عبدالقادر المهيري، عبدالسلام المسدي، محمد صلاح الدين الشريف، وكم سررت حين قرأت ما كتبه عن أستاذي الذي علمني في السنة التمهيدية ثم أشرف على رسالتي للماجستير «تعرّفنا على الأستاذ الصّديق محمود فهمي حجازي وهو من طلائع المختصّين في علوم اللّغة على النّهج الجديد، تخرّج من الجامعات الألمانيّة بأعلى الشهادات، فتح لنا، ولم يسبق أن سمع بأسمائنا، أبواب بيته وأكرمنا كلّ إكرام وأحرجنا لكثرة ما نوّه بمُبادرتنا وعبّر لنا عن استعداده الكامل لدعمها بما يستطيع واستعداده للمشاركة في أيّ عمل يدفع بالجامعات المشرقيّة إلى دائرة علم اللّغة الحديث الذي توليه الجامعات المغربيّة أكبر اهتمام. وبقيت صداقتي بالرّجل قائمة إلى اليوم وكلّما التقينا ذكرنا هذا اللقاء الأوّل بكثير من التّفاصيل». ولا غرو فهذا أستاذي محمود فهمي حجازي، خلق وعلم وكرم.
أفرغ حمادي صمود في هذا الكتاب ذوب نفسه وعصارة تجرِبته وسجل كفاحه، وهي سيرة جيله كما قال، ليس في تونس وحدها بل في كل البيئات العربية المناظرة لها، يسمو بك الكتاب في عتبات منه في آفاق أدبية فنية من السرد الروائي المدهش الواصف بلغة دقيقة موحية المشهد حتى تكاد تراه رأي العين أو تكون بهذا الوصف أكثر إدراكًا وأعمق سبرًا، وقد يأخذك إلى يفاع الأعمال العلمية الجادة.
وما (طريقي إلى الحرية)؟ أهي طريق إلى الحرية من شظف العيش والجهل السائد، لعله كذلك «إلّا أنّ شظف العيش هذا وإرهاقه لم يمنعاهم من الإقبال على الدّنيا لهوًا ولعبًا وعبثًا واجتهادًا في تليين عريكة الدّهر وقساوة الوضع؛ بل لعلّهم لم يكونوا يتصورون وضعًا عليه غيرهم من النّاس يختلف عن وضعهم وكوْنًا فوق ما هم عليه. فقدَرُ النّاس جميعًا قدرهم، فهم لا يعرفون في المحيط بهم سواه. وكان هذا الإحساس عونًا لهم على الرّضى بالوضع ودافِعَهم إلى الغفلة واللامبالاة في العيش»، ومثل هذا مورد من موارد الصفاء الذي هو مرحلة من مراحل هذه الطريق، «كنّا نقرأ القرآن قُبالة هذا المشهد الأخّاذ بصفا ئه وانكشاف ما يجري في باطنه لعين الرائي مجرّدة»، و»ارتبط حفظ القرآن عندنا بصفاء الماء ولمعان الأسماك تتمرّغ زهْوًا على جنبات المصاطب الصّخريّة أو المتوثبة خارج الماء إن هي شعرت بخطر داهم». هذه صور من الصفاء الظاهر الذي هو انعكاس لصفاء روح مقبلة على الحياة متطلعة إلى الغد، الذي يبدأ بمرحلة من مراحل هذه الطريق هي (مسالك الحيرة)، وبين (الحيرة) و(الحرية) تصاقب، كأن بينهما قلبًا مكانيًّا؛ فبتقديم الراء وتأخير الياء خروج من شتات الحيرة إلى أنداح الحرية، وفي مرحلة الحيرة تعصف بالسالك مشاعر وأفكار تحيره، «وأما (منزل تميم) فلقد فتحتْ عليّ، وأنا في تلك السن، أبواب الحيرة والسؤال. فكيف يمكن أن يكون النجاح الانتقال من بلدة إلى بلدة لا تبعد عنها إلا عشرة كيلومترات في حين كان النّجاح قبلنا يبعث بصاحبه إلى تونس العاصمة وإلى مدارس لها صيت بين النّاس؟»، و»هذه الأسئلة المبْهمة وغيرها كانت تدور في ذهني وتؤجّج حيرتي وتخلق فيّ متناقض الأحاسيس والرغبات: شعور بالخيبة وعدم الرّضاء ينقص ممّا حقَّقت إن لم يكن يأتي عليه والرغبة في اكتشاف ما قد يكون وراء هذا من مفاجآت سارّة تختصر على الناجحين المسافة وتحدّ من الكلفة. ولكنّ حيرتي أمام ما اختير لي لا تُقاس إلى حيرة العائلة عندما اقترب موعد الدّراسة وضرورة توفير الحدّ الأدنى الذي يقتضيه الانتقال من مرحلة إلى أخرى». وتأتي بعد مرحلة الحيرة آخر مراحل هذه الطريق المدونة وهي «أبواب مشرعة» للكفاح والجد في التحصيل والتجويد في الأداء في مرحلة الدراسة الجامعية ثم الدراسات العليا فالعمل الجاد في الجامعات، وإنما أشرع تلك الأبواب عقل نابه وقلب جسور وتوفيق من الله أن هيأ له من يعضده، فحفظ لهم حقم حين كانوا من دوافع كتابة هذا الكتاب الذي كتب «وصنع ليكون ... تحية إكبار واعتراف بالجميل إلى كلّ من صادفتُ في الطريق إلى حرّيتي من نساء ورجال كانوا لي مثالًا وعونًا على الصعوبات الجمّة التي أحاطت بكلّ سعي لأبناء جيلي. فقد صادفت نساء مجاهدات أعطين حياتهنّ لصدّ غائلات الدّهر عن أطفال بدون سند وأخريات تنبّهن إلى ما يجب أن يتغير في حياتهنّ وحياة أطفالهنّ فصنعن شيئًا من لا شيء بثباتهنّ وصبرهنّ الجميل، وصادفت رجالًا مؤمنين برسالتهم جبلوا على السّخاء ومدّ يد العون لمن رأوا فيهم وعدًا بإمكان به تتجدّد رسالتهم وتستمر لا فرق عندهم بين إنسان وإنسان إلّا بما سعى واجتهد ليصل من الطريق إلى أقصاها. ومن هؤلاء من كانت إعانتهم تحويلًا لمجرى حياة وفتحًا لدروب ذهب في الظنّ أنها انسدّت وانسدّت الآفاق التي تحلم النفس بمعانقتها». و»إلى (جميلة) والدتي؛ فلقد كانت، رحمة الله عليها، على جهلها القراءة والكتابة، مؤمنة صادق الإيمان بأنّ العلم طريق الإنسان الوحيدة إلى الحرية، فضحّت وصمدت أمام نائبات الدهر وصبرت حتى لا تنقطع بي الطريق إلى نهاياته».
هذا كتاب (طريقي إلى الحرية) وليس حتى الحرية؛ لأن الحرية غاية لا تدرك، كتاب ممتع لا يغني عن قراءته أن تقرأ عنه.