فيصل أكرم
(عندما تنزع روحك من جسدك عنوةً، وتضعها في زجاجة سميكة ليست من صنع يديك، ثم تحكم إغلاق الزجاجة بجدية لم تعهدها إلا في غيرك، لتترك البحر يلتهم هديتك إليه ويأتيك بما ليس لك فيه.. ضلَّت براءتكَ إذاً!
وعندما تكون آخر من يرى المسمار المحترق وهو يخترق عينك وأنت تسير حثيثاً إليه، فضلالُكَ ليس بريئاً إذاً...)!
كانت تلك كلمات أراها الآن حادّة، بعد مرور عشرين عاماً على كتابتها ونشرها (إحدى مواد الجزء الأول من نصف الكتابة) ولستُ أفهم ما الذي تغير؟ أهو الأسلوب؟ أم التجربة؟ وقد يكون التغيّر أصابهما معاً.. فلقد خفتت الحدّة من التجربة والأسلوب مع تعاليها واقعاً ومعاملة؛ وما ذلك من طبيعة المراحل، برأيي، إنما هو نتاج اصطدام عظيم حصل في كل شيء من دون أن يترك وراءه فرصة لتحصيل أيّ شيء!
لو أني أردتُ إعادة كتابة تلك السطور على طريقة (الصياغة العكسية) التي تجرأتُ بخوضها في عدد من نصوص سابقة ما كنتُ سأفلح مهما تكن مهارتي وغاياتي، فلقد أصبحت الحدّة المطبوعة بروداً مصطنعاً، في الزمن الضارب نيراناً بدواخلنا ومن حولنا، في حين يغمرنا الثلجُ المتصلّبُ في قوالب هشّة.
* * *
قبل أيام قليلة كتب صديقٌ منشوراً إلكترونيا يعيد فيه عبارة (النفّري) الشهيرة: (كلّما اتّسعت الرؤية ضاقت العبارة) ويعلّق عليها بأنه يرى أنّ: (العكس صحيحٌ أحياناً). فكتبتُ لتعليقه تعليقاً أقول: (كلما ضاقت الرؤى اتسعت العبارات). وبعد ذلك بأيام قليلة رأيتُ مقالة في إحدى الصحف الخليجية لكاتب صحافي أخذ التعليقين على العبارة - حرفياً - وجعل منهما موضوعاً لا علاقة لي ولا لصاحبي به، وكأننا (كتبنا وما كتبنا.. ويا خسارة ما كتبنا)!
بالطبع، لن أذكر اسمه حتى ولو كان ذكر اسمي واسم صديقي صاحب المنشور (الشاعر عبد القادر الحصني) ليس من باب المثل بالمثل، بل لأن التشهير بالسارقين ليس من شيم الكاتب المعنيّ بالأدب؛ بينما الاستشهاد بالمقولات المشهورة وتوثيق تفريعاتها بأسماء قائليها والمعلقين عليها مهما تعددت لا بد أن يكون من شيم الكاتب المعنيّ بالكتابة فقط!
* * *
للصحافة المطبوعة أبواب ونوافذ كثيرة تحلّق بجناحي الصورة والكتابة.. فالصورة قد تكون معلومة وقد تكون إبداعاً وفي أسوأ الأحوال قد تكون صورة فقط، والكتابة قد تكون معلومة وقد تكون أنواعاً شتى من الإبداعات وفي أسوأ الأحوال قد تكون كتابة فقط.
هل قلتُ: الكتابة فقط؟ ربما، وربما ذلك ما يجعلني أتردد كثيراً الآن قبل التعليق على أي كلمة مكتوبة في زمان مضى، زمان الكتابة المعنية بالأدب، حتى لا أضعها والتعليقات (الأدبية) المكتوبة حولها في مجاراة خاسرة مع هذا الزمن.. زمن الكتابة.. الكتابة فقط.
تلك المسألة المعقدة أراها - باختصارٍ - عنواناً واضحاً لبراءةٍ ضالّة، فهي كتابة بريئة من الأدب، وكل كتابة بريئة من الأدب حتماً هي براءةٌ ضالّة.. فقد ضلّت طريقها واتجهت لأماكن ليست لها، وعذرها البريء أنها مجرد كتابة.. كتابة فقط!
* * *
وأختم بمقتطف من (كأنها فضفضة):
حتى البريءْ
لا الشمسُ ترسمُ ظلَّه
من عند خطوتهِ المدانةِ
بالضلالةِ
والرّضا
منذ الذهاب إلى المجيءْ
ولا الشمعُ في يدهِ يضيءْ!