سهام القحطاني
«أنتم أعلم بأمور دنياكم»
عند تكبير الوضع العام للمجتمعات العربية ما قبل عصر النهضة أو بواكير العصر الحديث سنجد أن المجتمعات العربية مرت بثلاث مراحل تاريخية هي:
مرحلة الخلافة العثمانية، مرحلة الفوضى السياسية بعد سقوط الدولة العثمانية، مرحلة الاستعمار، وفي كل مرحلة من تلك المراحل كان الخطاب الديني يمثل دور البطولة؛ لأنه الظهير الداعم للنظام السياسي، وبذلك فهناك دوما علاقة تكاملية بين النظام الفاسد والخطاب الديني الفاسد، إضافة إلى أن الشعوب في أزماتها غالبا ما تحتمي بالديني لاعتقادها بأنه الُمنّقذ والمخلّص لها من «الفتن» وهذا الاحتماء هو الذي رسّخ سلطة الخطاب الديني على الوعي العام، كما أن الخطاب الديني في تلك المراحل هو الخطاب الأوحد في المجتمعات العربية في ظل غياب أي خطاب تنويري فكري أو علمي.
والأهم توافق طبيعة التوصيف العام للمجتمعات العربية؛ فهي في مجملها مجتمعات دينية.
وسيادة سلطة الخطاب الديني التقليدي هو الذي قاد رجعية المجتمعات العربية وتخلفها الفكري والعقلي.
لا بد من توضيح مسألة في غاية الأهمية، وهي «الاقتران الذي أصبح أشبه بالحتمية الشرطية بين الدين والرجعية»، وهذا الاقتران في مجملة لا يمكن إنكاره إذ هو اقتران ليس افتراضيا بل وفق واقع تاريخي كان حاصل الدور الذي لعبه الخطاب الديني منذ عهد التيار الحنبلي مرورا بالحركات الدينية المتطرفة في شبه الجزيرة العربية ومصر وأفريقيا وصولا إلى القاعدة وفروعها.
وهذا الاقتران بلاشك غير صحيح جملة وتفصيلا عندما يتعلق الاقتران بين الجوهر والحاصل؛ لأن الدين هو «منظم للعلاقات سواء في بعدها الألوهي أو بعدها الإنساني -الذاتي والغيري- أو بعدها الوظيفي- أنماط الخبرات ومستوياتها وحركة تفاعلها السيروري»، وتعتمد القاعدة الرئيسة في ذلك التنظيم العلائقي على مبدأ «لا ضرر ولا ضرار».
وحتى يُصبح لذلك التنظيم صفته الاعتبارية، تم دُعّمه بالشرائع التي تحولت فيما بعد وفق مقتضيات النمو والارتقاء وتوسع المهام والعلاقات الوظيفية للإنسان إلى مجموع من القوانين والإجراءات الحاكمة والضامنة للسلم الإنساني في نسختيه الذاتية والغيرية، والمشجعة على المشاركة البنائية المضمونة بالعدالة والحرية في عمارة الأرض واستثمار القدرات والإمكانات لتوسيع مشاركة الإعمار والتنمية.
وبذلك فأصل الدين يعتمد على «ما يُرقّي الإنسان فكرا وسلوكا» وهذا الأصل واضح في النص المقدس الذي اعتمد في ترقية الإنسان على «العلم ووسائله» التفكير والتفكّر والتأمل وقياسات المعرفة والبحث العلمي المختلفة»، وليس على «الاتباع والتقليد» الذي دفع الأمم إلى مهالك العناد والكفر والرجعية.
أظن أن هذه المسألة أصبحت واضحة في جوهر حقيقتها
-أقصد عدم صدقية اقتران أصل الدين والرجعية-.
كما لا بد من الالتفاف إلى فكرة تجنب خلط المصطلحات «فالديني» ليس هو «الدين» وليس هو معادل له سواء بالأصل أو التزكية، فالدين هو الجوهر الخالص للقيمة المجردة.
في حين أن الديني هو «مجموع التفاسير والتأويلات والاجتهادات الفردية التي تأسست في ضوئها أحكام وفق إحداثيات تتصف بخصوصية الظرفيات، ولذلك تظل مقام اختلاف وخلاف لا يمكن فرضها كمصدر أحادي لمطلق الحق والصحة.
إضافة إلى أمر مهم هو أن «الديني» هو الذي ينتج غالبا «الأيديولوجية» حتى يستطيع صناعة هوية يسيطر عليها، في حين أن «الدين» لا يمثل أيديولوجية ولا يصنعها أيضا؛ لأن الاعتبار بالقيمة وليس بفاعل التمثيل.
الديانات أو المعادلات الممثلة لها هي أسبق وجودا في التاريخ الإنساني قبل العلم وبذلك «فسلطة الديني» أقدم السلطات التي هيمنت على الإنسان وعيا وفكرا وسلوكا.
وسلطة الديني غالبا ما تُهيّمن على المجتمعات الأضعف علما ومعرفة، فالعلم والمعرفة دوما هما عدوان للسلطة الدينية وخطابها؛ لأنهما يحرران العقل الإنساني من تلك الهيمنة التي تعتمد على «التخويف الغيبي» ووجوب الاستسلام «لمجهولية سرمدية»، وهو ما يعني إهمال العقل ومسانداته المعرفية.
يمكن القول إن أصول الخطاب الديني الرجعي العربي ارتبطت بأربعة عوامل هي:
العامل الأول: ظهور القومية العربية وإخراج الديني من معادلات الهوية العربية الجديدة، وهذا الإخراج أدخل الخطاب الديني في مسابقة تنافسية مع خطاب القومية في ميدان أيهما الأقدر على تمثيل سلطة هيمنة على المجتمع العربي.
العامل الثاني: إحياء التراث الديني، مع حركة إحياء التراث العربي، تم إحياء كتب التراث الديني، وقد ركزت حركة الإحياء تلك على التراث الديني ذي الصيغة التي تنتمي إلى «التيار الحنبلي»، وأبرزت أفكار أهم أتباعه كابن تيمية وابن القيم، وقد أسهمت عملية إحياء الحنبلية إلى ظهور الحركات الدينية المتطرفة والرجعية التي حاربت العلم والمعرفة في المجتمعات العربية في مصر وفي شبه الجزيرة العربية.
أسست الحنبلية أيديولوجية حاربت الاتجاه العقلي بأشكاله كافة، واعتبرت أن أي تجاوز للنقلية المباشرة هو خروج عن الإسلام، وكان هذا المبدأ هو الأساس الذي جرّ على الأمة التخلف والجهل المعرفي، كما كان له دور في ظهور مصطلح التكفير من جانب والتطرف من جانب آخر، وهما جانبان كانا بمثابة «حبل مشنقة» لكل من يفكر من تجاوز هذا المبدأ أو نقده أو التشكيك في استمرار صلاحيته.
العامل الثالث: تعدد الخطابات المؤثرة في السيطرة على الوعي المجتمعي.
بعد خروج العرب من العباءة الدينية للدولة العثمانية والاستعمار أعتقد رجال الدين في المجتمعات العربية أن بإمكانهم أن يصبحوا البديل السياسي للدولة العثمانية وهذا ما يفسر لنا ظهور تأسيس مصطلح «الإسلام السياسي» والأجنحة العسكرية والسياسية التي كانت تدعم أي حركة دينية.
لكن ما لم يكن في حسبان تلك الحركات الدينية ظهور خطابات مجاورة له صحيح لم تكن في قوة تأثيره لكن كان لها فعالية في انقسام الوعي العام المجتمعي وظهور بدائل ممكنة تعوّض الخطاب الديني الذي استمر منذ ظهور الإسلام الخطاب الأوحد المهيمنة سلطته على الوعي العربي، وأهم تلك الخطابات هي؛ خطاب القومية العربية، والخطابين الثقافي والاجتماعي التنويريين، وظهور الصحافة التي كانت تمثل الخطاب النهضوي العام وتدعم انفتاحات الخطابين الثقافي والاجتماعي، والأهم ضمن ذلك تمكّن النخبة من صناعة خطاب عدائي مباشر وفاضح لممارسات الخطاب الديني لترسيخ رجعية الوعي العام المجتمعي.
وبلاشك أن تعدد الخطابات الموجهة للوعي العام العربي كان لها دور كبير في زيادة شراسة الخطاب الديني الرجعي، تلك الشراسة التي أنتجت «سياسة التصفية» عند الحركات الدينية سواء التصفية من خلال التكفير أو من خلال الاغتيالات أو المشاركة من تحت الطاولة مع الحركات الانقلابية على الأنظمة السياسية في ذلك الوقت.
أما العامل الرابع الذي دعم استفراد الخطاب الديني الرجعي بالوعي العام العربي دون قصد فهو «غياب صناعة الخطاب العلماني العربي» وهذا حديث قادم -إن شاء الله-.