د.عبدالله الغذامي
للذهن البشري قدرته الخاصة للعيش في أزمنة متعددة، فهو يعيش واقعه الحاضر بمثل ما يعيش مع الماضين عبر قراءة كتبهم، ويعيش مع المستقبل عبر الخيال الذي يعطيه فرصة لصناعة مستقبل من أي نوع ولو عبر الأحلام والأمنيات، والأمنيات هي نظام ذهني ينقلك من حالك الواقعية إلى حال افتراضية ترسمها بنفسك وهي كما يقول الشاعر
منى إن تكن حقا تكن أحسن المنى
وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا
والبيت يشير إلى العيش الرغد، وهي عيش افتراضي متخيل وتتحرك النفس معه نشطة وحيوية بما أنه يمثل رسمة وردية لعالم متمنى، ومثل ذلك فإن القراءة في كتب الماضين تعيدك لزمانهم، ويكفي أن تقرأ (ألف ليلة وليلة) لتعيش في بغداد القديمة أو القاهرة القديمة، ومثلها كتاب الأغاني حيث يضعك في الجو العباسي بكل صيغه اللغوية والشعورية حتى لكأنك مع شخوص روايات الأصفهاني ترى ملابسهم وتحس أنفاسهم. وهاتان رحلتان ماضيًا ومستقبلاً تمثلان سفرًا ذهنيًا ببعديه العقلي والوجداني، وتجد النفس البشرية فيه متعتها مثلما تجد فيه مهربها من الواقع وكأنها سفرة سياحية تريحك من عناء الوظيفة ونظام الحياة اليومي المحصور، ثم تعود منها بنفس معمورة بالنشاط والبصير معًا، وكأنها وقود يعطيك قدرة مضاعفة على التعامل مع حياتك وظرفك.