دروس التاريخ كبيرة، وأعاجيبه تكاد تعصف بالعقل، وعجلة الأحداث فيه دائمة الدوران، وربما تناسخ الحدث الواحد عبر عصور مختلفة وعلى يد أبطال جدد، وعليه فمن التزمت حياله رد رواياته لمجرد اصطدامها بالمنطق أو تقاطعها مع روايات مشابهة. ألا يمكن أن تكون قصة حرق طارق بن زياد لسفن الفتح مثلًا حقيقة تتوسط حقيقتين: حكاية حرق وهرز الديلمي لسفنه على سواحل اليمن، وحرق القائد الإسباني إيرنان كورتيس سفنه إبان حملته على المكسيك! ألا يمكن أن تكون مشاهد يحاكي التالي السابقَ منها بقصد، أو محض صدفة اقتضتها دورة التاريخ نفسه؟ لماذا يصر بعضهم على إنكار شخصية ولادة بنت المستكفي مثلًا، لاعتبارات علمية ناقصة؟ وكيف يحسن عد قيس وليلى والسموأل وغيرهم من قبيل الأساطير الشعبية لشبهات مرد بعضها الذوق والعاطفة؟ إن من الحكمة التروي حين قراءة التاريخ، وعلى الرغم أني لا أؤمن بتناسخ الأرواح، فإن إيماني بتناسخ الأحداث عميق، وكما أن في البشر توائم ففي التاريخ كذلك.
حين ابتعثت للدراسة إلى مملكة إسبانيا في النصف الأول من العقد المنصرم، انتظمت في جامعة كومبلوتنسي بمدريد أولًا، وكان طريقي إليها يتطلب ركوب «المترو» وتبديل المسارات وصولًا إلى الجامعة. وكان المسار الأخير باتجاه الهدف يمر بمحطة (Guzm?n el Bueno)، أو «قزمان الطيب»، وكنت أصغي إلى الصوت النسائي المسجل وهو يبشر بالمحطة التالية للوقوف، فانحفرت في ذهني أسماء محطات الذهاب والعودة، لكن قزمان الطيب كان له في الأذن وقع مختلف. ولأني وقتها -كسائر العرب- مهووس برد كل عبارة إسبانية إلى أصلٍ عربي؛ فاعتلق بذاكرتي باسم «عثمان»، لكني لم أكلف نفسي عناء البحث أو السؤال: من عثمان هذا؛ لاعتقادي بأن الأمر مبكر على طالب في مرحلة الدراسة الأولية للغة.
في المرحلة الثانية من البعثة، انتقلت إلى جنوب إسبانيا لإكمال دراستي في جامعة غرناطة، وهناك بدأ اتصالي الحقيقي بالتاريخ الأندلسي والإسباني، وخلال قراءاتي في سياسة مملكة نصر وعلاقاتها الدبلوماسية بجارتها القشتالية؛ لاح لي هذا الاسم من جديد: «قزمان الطيب» في حكاية بطولية أشبه بالخيال. ولد قزمان الطيب في «ليون»، شمال إسبانيا، عام 1256 م، وتوفي في «قاوثين» غرب مالقا عام 1307 م، شارك في الحروب الداخلية لمملكة بني مرين المغربية، وفي انعقاد الصلح بين المرينيين وملك قشتالة الشهير ألفونسو العاشر عام 1276 م. تعزى شهرته في التقاليد القشتالية إلى موقفه من الحصار الثلاثي لمدينة طريف من قبل المرينيين وبني نصر وشقيق الملك سانشو الرابع، حينما دافع عنها بكل بسالة رافضًا تسليم الحصن والسماح باقتحام المدينة. هنا يقع ابنه الصغير في قبضة المحاصرين، فيستخدمونه وسيلة ضغط على والده مخيرينه بين التسليم أو أن يذبح ابنه أمام عينيه، فاختار الفقد على أن يخفر بذمته، بل قيل إنه ألقى عليهم سكينًا من أعلى الحصن ليذبحوا!!
هذه القصة الموثقة في التاريخ الإسباني، لها ما يشابهها في التراث العربي القديم، بل تكاد تكون مطابقة لها تمامًا. إنها حكاية وفاء الشاعر اليهودي الجاهلي السموأل بن عادياء، صاحب حصن تيماء الذي تمنع به عن تسليم أمانة امرئ القيس لأعدائه، باذلًا بذلك ابنه من أجل الوفاء والمروءة، حتى قال الشاعر الشهير الأعشى:
كُنْ كَالسَّمَوْأَلِ إِذْ طَافَ الْهُمَامُ بِهِ
فِي جَحْفَلٍ كَسَوَادِ اللَّيْلِ جَرَّارِ
جَارُ ابن حيّا لمن نالتْهُ ذِمّتُهُ
أَوفى وَأمنع منْ جار ابنِ عمَّار
بِالأَبْلَقِ الْفَرْدِ مِنْ تَيْمَاءَ مَنْزِلُهُ
حِصْنٌ حَصِينٌ وَجَارٌ غَيْرُ غَدَّارِ
إِذْ سَامَهُ خُطَّتي خَسفٍ فقالَ لهُ
قل ما تشاء فإني سامعٌ حَار
فَقَالَ ثُكْلٌ وَغَدْرٌ أَنْتَ بَيْنَهُمَا
فَاخْتَرْ وَمَا فِيهِمَا حَظٌّ لِمُخَتَارِ
فشكَّ غيرَ طويلٍ ثُمَّ قالَ لَهُ
اقتل أسيرك إني مانعٌ جاري
إن بين الحكايتين تقاطعات مثيرة للغاية؛ فالسيادة والحصن والحصار والتمنع والابن والذمة، هيئات تكاد تجعل من الحكايتين خرافتين تنتسخ إحداهما الأخرى.
لقد تشابهت الأحوال وتشاكل الرجال، رغم اختلاف الأصل والنحلة. لكن هل كان حسابنا خاطئًا في هوسنا الشرقي حين اعتقدنا أنه عثمان وأنه عربي؟ إنها حقًا مروءة عربي وشهامة مسلم، ولقد طرحت بعض الوثائق الإسبانية الحديثة فرضية عروبته، بأدلة قوية، وربما كان مسلمًا في سره، لم يمنعه اختلاف نحلته عن الوفاء بعهوده، ويا ليت العرب يعلمون!
** **
- د. صالح عيظة الزهراني