الثقافية - محمد هليل الرويلي:
ربما تكون قصيدة العلامة الشيخ ابن باديس التي مطلعها:
شعب الجزائر مسلم.. وإلى العروبة ينتسب
التعبير الصريح عن الوعي بالهوية الثقافية للجزائر، والإفصاح عنها، والعمل على تجسيدها واقعيًّا.. وقد خاض هذا الوعي بالذات حربًا طويلة مع الاستعمار ومؤسساته، واستطاع أن يؤسس لثقافة وطنية بالغة الأهمية في تاريخ الجزائر الحديث. بهذا البيت والتعبير استهل الدكتور عبدالله العشي حديثه لرحلة الثقافة «رقيم ودهاق أوطاننا العربية» بعد أن طوت رحالها من مصر، وحطتها عند جنبات بيوتات الجزائريين.. وقال: أما التعبير الثاني الأكثر عمقًا فهو بيان أول نوفمبر الذي نص على الاستقلال من خلال إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية.
وأضاف: وبعد الاستقلال شرع في تطبيقه وإن باجتهاد اختلف فيه كثيرًا؛ لأن دولة الاستقلال تبنت الاشتراكية مشروعًا مجتمعيًّا بكل تفاصيله في السياسة والفكر والحياة العامة. وقد تم رفع شعار كبير، يقوم على ثلاثي مكون من الثورة الزراعية، والثورة الصناعية، والثورة الثقافية.. غير أن هذا الشعار في بعده الثقافي لم يطبق، ولم تظهر في الواقع أية ثورة ثقافية.
الإيعاز للمثقفين بفتح الملفات المغلقة!
ومع بداية الثمانينيات تم الانقلاب الجذري على الاشتراكية، والانتقام منها، من خلال ما سمي آنذاك بملف السياسة الثقافية، وتم الإيعاز للمثقفين الجزائريين أن يفتحوا ما كان مغلقًا، وكانت جل الكتابات التي ساهم فيها مثقفون كبار تدور في أغلبها حول قضية الهوية الثقافية للجزائر، وهو موضوع لم يكن مباحًا في الفترة السابقة نظرًا لحساسيته، ظل هذا الملف مفتوحًا لفترة، ولكنه كان رغم أهميته مجرد ظاهرة إعلامية؛ لأنه لم ينتهِ إلى شيء.
المأساة الوطنية أدخلت الثقافة في نفق الدمار
وتابع العشي وهو يستعيد فترة التسعينيات المأساة الوطنية التي دخلت فيها الجزائر: إنه لم يكن بالإمكان رفع أي شعار ثقافي في فترة التسعينيات بسبب المأساة الوطنية التي دخلت فيها الجزائر، بل تعرضت الثقافة لمأساة حقيقية ولدمار شوه صورة المجتمع. ومع بداية الألفية الثالثة تركز العمل على استعادة الاستقرار وترميم العطب، ولم يكن ثمة اهتمام بجوهر المسألة الثقافية. لقد تعطلت الاتحادات الثقافية رغم تحررها من سلطة الدولة والحزب، فلم تبرز أية حركة لتجميع الكتاب والمثقفين، وأعلنت المؤسسات التي كانت تنشط سابقًا إفلاسها، كالشركة الوطنية للنشر والتوزيع وديوان المطبوعات بالجامعة، وتوقفت المجلات التي كانت تصدرها وزارة الثقافة ووزارة الشؤون الدينية ووزارة المجاهدين، وتم توقيف استيراد المجلات المشرقية، وغابت كليًّا أو جزئيًّا مؤسسات ثقافية، خاصة المسرح والسينما، غير أن هذه المرحلة شهدت بناء جامعات ضخمة في كل التراب الوطني، ودور الثقافة والمراكز الثقافية، وتم إنشاء إذاعات جوارية في كل ولاية، وظهور مئات الجمعيات الثقافية، والمهرجانات، وتم إنشاء المجالس الثقافية والعلمية، غير أن مردودها لا يكاد يظهر، فلا تزال الفرنسية مهيمنة، ولا تزال الهوية في خطر، وما زال النضال من أجل المسائل الأولى التي كان يفترض أن يكون الجدل حولها قد انتهى.
واختتم حديثه حول محور السياسة الثقافية في الجزائر: هكذا, بين سلطة الأيديولوجيا في السبعينيات، وبين الانتقالية الليبرالية في الثمانينيات، وغياب المشروع المجتمعي بعد ذلك، بين هذا وذلك ضاعت الثقافة. ولأجل ذلك لا يزال المجتمع الجزائري مادة خامًا، لم تتشكل بعد، في بعده الثقافي، ومن الصعب بناء ثقافة قادرة على التعبير عن عمق الأمة وروحها وطموحها ما لم يتم صوغ هويتها بوضوح وموضوعية.
الجزائر والثقافة المضادة للثقافة
الثقافة الجزائرية منذ غابر العصور لم تكن ثقافة واحدة متجانسة، إنما قامت على ثقافات فرعية مقاومة، فرضتها ظروف ارتبطت بوضع الجزائر، فهي المغرب الأوسط الذي تنازعت في شرقه وغربه دويلات وممالك، وامتد النزاع إليها، فكانت من أكثر الدول المغاربية تأثرًا بما حدث في منطقة شمال إفريقيا من اضطرابات على الرغم من أنها أكثرها تنوعًا ثقافيًّا.
مثقفو الجزائر والخيارات الصعبة
الدكتورة آمنة بلعلي تؤكد أنه بسبب ذلك أدخلت هذه الوضعية الجزائر منذ القدم في عزلة ثقافية، لا تزال ترى آثارها حتى اليوم, فكان على المثقفين الجزائريين آنذاك أن يتخذوا حلولاً عدة، إما إعلان الثورة والتمرد على الأوضاع كما فعل المغيلي الذي كان ناقمًا على أمراء المغرب الإسلامي لتخاذلهم أمام الغارات الأجنبية، وصراعاتهم الداخلية، فراح ينشر ثقافة الأمير الصالح في إفريقيا.. أو الهجرة من البلد كما فعل الونشريسي وغيره، ولعلها هي التي أجبرت عددًا كثيرًا منهم على الهجرة والانتساب إلى بلدان أخرى أو الانخراط في سياسة التدجين التي فرضها السلطة كما فعل ابن قنفذ القسنطيني.
هجرة المثقفين عنها
وتؤكد بلعلي أيضًا أن الجزائر خسرت من هجرة أبنائها شرقًا وغربًا؛ فنسب الكثير منهم إلى غير موطنهم الأصلي مثلما هو الأمر لدى القديس أوغسطين وابن رشيق وغيرهما، واعتزل بعضهم الناس، وجنحوا إلى صوفية، كان لها دور في نشأة عائلات ثقافية، هي التي حافظت على الإرث الثقافي على مدى العصور كعائلة المقري التي ينسب إليها صاحب نفح الطيب، وعائلة ابن باديس التي أنجبت رائد النهضة العلامة ابن باديس، وعائلة الثعالبي التي أنجبت العلامة عبد الرحمن الذي تنسب إليه مدينة الجزائر، وعبد العزيز الثعالبي رافع لواء النهضة التحديثية في تونس بعد هجرة جده إليها.
وزادت: إن هذه الظروف التاريخية التي شكلت الثقافة الجزائرية، إضافة إلى فترات الاستعمار الطويلة؛ إذ ساهم تداول الأقوام المختلفة كالرومان والوندال والعرب والإسبان والأتراك والفرنسيين في نشأة نوع من المقاومة الثقافية التي أنتجت بدورها أنماطًا من الثقافات الفرعية، كان لها آثار وخيمة، ما زالت الثقافة الجزائرية تعاني منها إلى الآن، لعل أهم مظاهرها غياب الظاهرة الثقافية؛ ففي الجزائر مثقفون بارعون في كل المجالات، لكنهم مشتتون محبطون، يشتغلون بمفردهم، لا يجمعهم عامل مشترك، ولا طموحات موحدة، مقاصدهم متفرقة، ولا توجد برامج وسياسة ثقافية توحدهم، ويسعون إلى تجسيدها. وأدت لغياب الذائقة الثقافية، ونعني بها عدم قدرة الثقافة الجزائرية - وللاعتبار السابق - على إيجاد جمهور متخصص، لا في الأدب ولا السينما ولا في المسرح، على الرغم من وجود الثقافة.. ولعل ذلك راجع لعدم وجود مجتمع مدني، وعدم وجود أحزاب قوية، تصنع المثقفين، وتؤطر الفعل الثقافي، وغياب المحفزات والفضاءات المؤطرة. والنتيجة أننا نشهد مشهدًا ثقافيًّا قائمًا على ظاهرة ردود الفعل الثقافية، التي ترتبط بالمناسبات، وتظهر فجأة لتختفي دون سابق إنذار.
رحلة الأدب الجزائري بين النسيان والتحدي
يتميز التراث الأدبي الجزائري بتنوع روافده؛ فهو تراث أمازيغي قديم، تأثر بالاحتلال الفينيقي والقرطاجي والروماني، ثم امتزج عبر العصور بالتراث العربي الإسلامي منذ نهاية القرن السابع، وبالتراث الأندلسي بعد نهاية القرن السادس عشر، كما تأثر بالحضارة الأوروبية خلال فترات الاحتلال الفرنسي والإسباني. الدكتور سليم سعدلي تحدث عن رحلة الأدب الجزائري بين النسيان والتحدي كاشفًا النقاب عن ارتباطه منذ القدم بالمشرق، وقال: لقد صنف أدباء الدويلات التي نشأت في الجزائر كالدولة الرستمية، المرابطية والزيانية, على أنهم نسخة للبحتري أو ابن الرومي، مثلما هو الحال لدى بكر بن حماد، وابن محرز ركن الدين الوهراني. وعلى الرغم من ذلك حرص الجزائريون على صوغ ذاكرة أدبية، تستقي معالمها من الواقع الجزائري الذي عاش أبناؤه صراع الدويلات وهجرة مثقفيه.
وكشف أيضًا أن الإبداع الجزائري يمتد في عزلته المنسية إلى «الحمار الذهبي» أول رواية في التاريخ لـ»لوكيوس أبوليوس» وبالأمازيغية أفولاي. وعد التراث الجزائري القديم على وجه الخصوص، والمغيب على الساحة النقدية قديمًا وحديثًا، صورة لمعالم الثقافة الوطنية المطوية؛ كون نصوصه اشتغلت بالهامشي والثقافي والسياسي، وأثارت قضايا ما بعد حداثية قبل أوانها، ترتبط أساسًا بنقد المؤسسة السياسية والدينية والاجتماعية، وعلاقة الأنا بالآخر، والمركز بالهامش، وغيرها من المسائل المحظورة التي تعبر عن صراع الأنساق الثقافية. ومن هذا المنطلق تأخذنا الذاكرة إلى القرن الثالث الهجري مع شاعر الدولة الرستمية بكر بن حماد، الذي رحل إلى المشرق، واستقر في مدينة بغداد، وأخذ عن الحسن البصري وأبي حاتم السجستاني وغيرهما، وأصبح شاعرًا مفلقًا له مكانة مرموقة، لا تقل عن شعراء عصره، واتصل بالخلفاء العباسيين ومدحهم، كما تربطه علاقات وطيدة بأبي تمام ودعبل الخزاعي ومسلم بن الوليد، وكانت له معهم مساجلات أدبية خاصة بينه وبين دعبل الخزاعي وهجاء الخلفاء.
فن المنامات الجزائري
كما انفرد الأدب الجزائري كذلك بفن المنامات الذي أسس له ابن محرز ركن الدين الوهراني الذي عاش في القرن الخامس الهجري. ومن الوهراني إلى الأمير عبد القادر رائد النهضة الأدبية ومؤسس الدولة الجزائرية الحديثة إلى رمضان حمود مؤسس الشعر الحر في العشرينيات من القرن العشرين إلى مفدي زكريا شاعر الثورة.
الجزائريون بين الثقافة الشرقية والغربية
وزاد: لقد خاض الأدب الجزائري رحلة بين انتماء إلى ثقافة مشرقية، تراه هامشًا، وهي المركز، وثقافة وطنية، لم تجد من يروج لها؛ فتم التعتيم عليها، ولغة فرنسية اعتبرها البعض غنيمة حرب، كمحمد ديب، طاوس عمروش ومولود معمري، ورأى البعض الآخر أنها منفى اضطراري مثل مالك حداد. لقد خاض الجزائريون كل التجارب الإبداعية الشعرية والقصصية والروائية؛ ليضاهوا ما كتب في كثير من أنحاء العالم، يتحدون بها كل يوم العزلة والنسيان، ويصنعون رموزًا أدبية، تعبر عن تجارب ثرية في الفعل الإبداعي الكوني.. كواسيني الأعرج وأحلام مستغانمي وآسيا جبار وعبد الحميد بن هدوقة والطاهر وطار وغيرهم من الرموز الثقافية الأدبية.
النقد الأدبي الجزائري ارتكز على القديم ثم انعتق
وحول الحركة النقدية المصاحبة للحركة الإبداعية في الجزائر أوضح الدكتور يوسف وغليسي أن النقد الجزائري ارتبط قديمًا بثلة من النقاد الذين ارتبطت أسماؤهم بأمهات مصادر النقد العربي القديم؛ فكانوا أعمدة ضمن كثير من نقاد المغرب الإسلامي آنذاك. إن أسماء كابن رشيق المسيلي المنسوب إلى القيروان، من خلال كتابه العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، وأستاذه عبد الكريم النهشلي في كتابه الممتع في علم الشعر وعمله، إضافة إلى نفح الطيب لأحمد بن محمد المقري التلمساني.. لعل هذه الأسماء كافية للتعبير عن مدى انخراط الجزائريين في المشهد الثقافي العربي منذ القرون الأولى من دخول الإسلام إلى شمال إفريقيا، على الرغم من التغييب الذي طالهم، والسطو عليهم بنسبهم إلى غير موطنهم. وأضاف: أما النقد باعتباره فنًّا مستحدثًا فيمكن التأريخ لبداياته المنهجية الحقيقية بمطلع ستينيات القرن العشرين مع أبي القاسم سعد الله (ت. 2013). تلك البداية التي أعقبتها كتابات نقدية مختلفة كانت الجامعة الحاضن الأكبر لها من خلال رموز تلك المرحلة: عبد الله الركيبي، صالح خرفي، محمد مصايف ومحمد ناصر. ومع مطلع الثمانينيات انفجرت ثورة الحداثة النقدية، وانخرط المشهد النقدي في مناهج جديدة، لا عهد للنقد الجزائري بها (البنيوية، الأسلوبية، السيميائية، التفكيكية، الموضوعاتية والتداولية...). وقد كان عبد الملك مرتاض رائد تلك الثورة المنهجية، بعدما كان جزءًا لا يتجزأ من المشهد النقدي التقليدي خلال السبعينيات. وقد تعززت جهوده بكتابات أخرى لأسماء جديدة أخرى، أمثال عبد الحميد بورايو، عبد القادر فيدوح، حسين خمري، رشيد بن مالك، أحمد يوسف، بختي بن عودة (اغتيل سنة 1995)، عبد الله العشي، علي ملاحي، آمنة بلعلى.. وأسماء أخرى لا تزال تصنع الحاضر البهي لهذا المشهد في شتى تمفصلاته المنهجية، وفي مختلف المدونات الإبداعية التي يشتغل عليها.
من مائزية الجامعات تمنهج التخصصات
لا بد ألا ننسى الدور الريادي الذي تقوم به الجامعة الجزائرية حاليًا في سبيل توجيه المشهد النقدي؛ إذ تحولت بعض الجامعات إلى معاقل منهجية معروفة، كجامعة تيزي وزو (معقل النقد التداولي)، وجامعة عنابة (معقل النقد الأسطوري)، وجامعة بشار (معقل السرديات) وغيرها. ومقابل ذلك ثارت الآراء والأفكار على النقد الجامعي متهمة إياه بالتحجر والانغلاق؛ فكان ذلك عامل تشجيع للنقد الصحفي والنقد الإبداعي في توجهاتهما الانطباعية المتحررة.
كان هذا الجزء الأول من رحلة «الثقافية» الموسمية (رقيم ودهاق أوطاننا العربية) «تمصرع الثقافة السياسية إبان تمرحلها وما ارتزحته من تكلمات مأساوية، تناتج عنها هجرات مشرقية ومغربية للمثقفين الجزائريين الذين أرجع بعضهم واعزًا ببض الملفات المأسورة دهلزة والتنضية والتنقيب عن الهوية الثقافية المتسجفة وقبًا أو المركونة بإقصائية ونغذ الخطى معًا في ترحلة الأدب الجزائري الباهر عاقدين صفقة الأخذ بكم طوعًا أو تكرهًا للجزء الثاني لنفض الطوق عن ملفات جديدة في المدارس التفردنية؛ لنرسم لوحة تعريفية، تفهرس لقارئنا خارطة التنمير اللامتناهي في «بلد المليون شهيد».