عندما كنت صغيراً لم أعرف بولندا إلا عن طريق كرة القدم وهدافها الشهير آنذاك لاتو مع الثنائي سيزرماتش ودينا ثم بعد ذلك بونيك وعندما أفل نجمهم كان هناك نجم آخر مابرح يلمع في سماء وارسو لعقود كثيرة يزيّن سماءها في الأدب بألوان طيفه الممتعة! تزاحم بولندا به مناكب الكبار من أجل ذلك لم تكن جائزة نوبل للآداب عصية عليه فحازها سنة 1980م ، أحياناً يكون البكاء مجدياً فيرسم لوحة وله وعشق ينفث من خلاله براكين الوجد والآهات لذلك كانت دموع الوداع تنهمر عبر نهر فيستولا الذي يقع على جنبيه سهول خضراء تنبت في القلب قبل الأرض فتروي العاشق الظمآن من حب هذا الوطن الذي لم يستطع تشيسواف ميوش أن يقاوم عشقه وانتماءه فغادره متحسراً كالتائه فبادره البولندون الوفاء بالوفاء وكتبوا اسمه بماء الذهب وحفروه على صخور جبال التاترا مما جعله رمزاً وطنياً يتغنون به ويفخرون به أمام العالم! لم تكن بولندا بعيدة عن أطماع هتلر فكانت محطته الأولى التي ابتليت به ثم طالتهم أيادي الشيوعيين كما طالت أكثر دول أوروبا الشرقية باستغلال اهتراء النظام السياسي وضعف الاقتصاد الذي يؤدي إلى الفوضى فكانت حقبة الأربعينات سوفيتية استعمارية خالصة فاجتاحت الشيوعية بولندا فكرياً واقتصادياً وعسكرياً فكان ميوش أحد المعاصرين لهذه الحقبة السيئة في حياة بولندا .
الأمل إلى جانبك حينما تؤمن
أن الأرض ليست حلمًا وإنما جسدٌ حي،
وأن البصر واللمس والسمع لا تكذب،
وأن كل الأشياء التي رأيت هنا
هي كحديقة تنظر إليها عبر بوابة!
أنه الأمل الذي زرعه ميوش محاولاً التغلب على نبتة اليأس التي تحاول أن تتسموق وتشتد في نفسه ولشعب بولندا الذي يخاطبه من وراء البحار يريد استنهاضهم وتغيير الموجة الحزينة التي ارتكزت في بلاده وإخراجهم من وحل الشيوعية الراديكيالية التي لا تقدم للبلد ما يستحقه من تطور وازدهار في ظل انعدام حرية الرأي والديمقراطية? وهو أيضاً حين يتحدث عن أرضه ووطنه فهو يتحدث عن أوروبا بأكلمها فهي وطنه الكبير الذي لا بد ألا يُختطف! هكذا كان في كتابه ( أوروبا خاصتنا) فالحب والعشق يكون ليس لبولندا فحسب وإنما هو حب لكل بقعة في أوروبا التي طالتها أيادي البغي والسوء وهي ترزح تحت الاستعمار فهنا يطرد الأنانية أو الأنا من قلبه ويستبدلها بالأثرة وحب الآخر الذي شكّل جلّ قصائده والاشتياق المزمن حين يكون بعيداً .
أوروبا يا موطني الحبيب،
فراشة تضيء على أزهارك
تلطخ جناحيها بالدم
يتجمع الدم في أفواه الخزامى
يضيء، كنجم بهاء الصباح
ويغسل حبوب القمح
يدفئ شعبك أياديهم
بالقرب من شمعة زهرة ربيع جنائزية
ويسمعون فوق الحقول عواء الرياح
في فوهات مدافع على وشك الإطلاق.
كانت رواية (الاستيلاء على السلطة) سنة 1953م هي التتويج في الكتابة السياسية والتاريخية معاً مع الواقع المرير المفروض عليهم! وذياع صيتها إنما كان بفضل انتشارها وكأنه إيذان بمقاومة ناعمة ضد المد الشيوعي سرعان ما خبا ضوؤه وخاب هو أمله في ذلك ولأن ما كان قبله من شعر ونثر (كالفكر الأسير) و(الهيمنة الشيوعية) إنما درج تحت الإزعاج المؤقت سرعان ما صودرت وانتهى الأمر دون ضجة تذكر في الداخل بينما كان صدى ذلك قوياً خارج بلده .
لم يكن ميوش بدعاً من الشعراء والكتاب الذين هجروا بلادهم رغماً عنهم فإن النظام الشيوعي لم يتحمّل تبعات الوطنية التي يصدح بها ميوش في شعره وكتاباته فغادر بلاده مجبراً إلى فرنسا لاجئاً ثم الولايات المتحدة الأمريكية والذي عمل بها استاذاً للدراسات السلافية ومع أنجليزيته إلا أن كتاباته ظلت بلغته الأم وبلاده هي كعبته التي يؤمها كلما تذكر أيامه الخوالي في بلدته الصغيرة والتي توّجها بكتابه (على ضفاف الأيسا) وهو سيرة ذاتية عن طفولته لم ينس فيها عشقه الدائم الذي تكوّن فيه والذي يعتبرها أمه التي أرضعته بلبان المعرفة والثقافة والكتابة.
** **
- زياد السبيت