أجد نفسي بين الفينة والأخرى وأنا أبحث في محركات الفضاء الشبكي، أو ضمن بعض المواقع الأكاديمية، أمام أطروحات جامعية حديثة الإنجاز، قدمها طلبة باحثون غربيون في اختصاصات متعددة. كان يدفعني الفضول إلى تحميل بعضها للاطلاع على نوعية البحوث التي ينجزها طلبة الدكتوراه في فرنسا, أو كندا، أو بريطانيا, أو أمريكا، والوقوف على جديد القضايا المتناولة، والمناهج الموظفة أملاً في تكوين صورة دقيقة عما يتداولونه أو ينشغلون به. كانت تحدوني الرغبة في مقارنة أبحاثهم بما يقدَّم في جامعاتنا العربية من أطروحات، وعندي فكرة وافية عن المنجزات العربية من خلال ما أشرفتُ عليه من رسائل, أو شاركتُ في مناقشتها، سواء داخل المغرب أو خارجه.
بما أن انشغالاتي البحثية في الفضاء الشبكي تتركز -بصورة خاصة - على تطوير الدرس الأدبي العربي بوضعه على سكة البحث العلمي الحقيقي، وليس بالطريقة التي نتداول بها كلمتَي «البحث» و»العلمي»، التي تخلو نهائيًّا مما يتصل بالعلم والمعرفة العلمية، كانت محركات البحث تضعني -في أحيان كثيرة- أمام أطروحات ورسائل جامعية، تدور في حقول جديدة، تواكب مناهج البحث العلمي المتجددة، وتسعى إلى تطوير الأسئلة التي تشغل بال الأكاديميين في العالم أجمع. وبتصفح محتويات أغلب هذه الأطروحات كنت ألاحظ:
- جدة في الموضوعات المتناولة.. ورغم كونها تتناول قضايا أدبية، أو نصوصًا سردية، فهي تعالجها معالجة جديدة، لا مجال فيها للتكرار والاجترار.
- الانطلاق من قضايا محددة تحديدًا دقيقًا، وحتى وإن كانت تتصل باختصاصات محددة نجد الطالب الباحث ينفتح على اختصاصات متعددة، ويبدو من خلال عمله استيعابه الجيد لها. ومعنى ذلك أنه قضى وقتًا مهمًّا في محاولة استيعابها وتمثلها.
- الاطلاع الواسع على الأدبيات المتصلة بالموضوع، مع التمكن من المناهج والإجراءات البحثية التي تتصل بالموضوع.
كل هذه المنجزات كانت تدفعني إلى مطالعتها، والاستفادة منها؛ لما أجد فيها من عمق معرفي، وأفكار تدل على الجهد المبذول فيها؛ ما يجعلني أتأكد أنها لم تعد لنيل شهادة أكاديمية فقط، ولكن بهدف الانخراط في المجتمع العلمي، والمساهمة في تعميق النقاش حول القضايا المطروحة في الساحتين العلمية والأكاديمية. لكل هذه الاعتبارات نجد أن لتسمية «طالب الدكتوراه»، و»ما بعد الدكتوراه» في التقاليد الأكاديمية الغربية والشرقية المتطورة، دلالات خاصة، لا تتوافر في أعرافنا الجامعية العربية.
إن البحث الجامعي العربي، خاصة في مجال الدراسات اللغوية والأدبية، لا يزال تقليديًّا، يعكس واقع البحث اللساني والأدبي العربي الذي تكرس منذ تأسيس الجامعة، والذي نجده يرتهن بصورة خاصة إلى جمع المعلومات وتلفيقها وتقديمها على أنها «أطروحة». وحين نسأل الطالب عن «الأطروحة» التي يدافع عنها في دراسته نجد كأن على رأسه الطير؟ ولقد وقع لي هذا مرارًا في مناقشة العديد من الدراسات. إن الطالب الذي لا يعرف ما هي «أطروحته» لا يمكنه أن ينجز أطروحة تسهم في تطور البحث الأكاديمي. قد يصنف كتابًا «نقديًّا»، يحلل فيه بلا منهج محدد، أو يناقش معلومات بسيطة، أو يقدم لنا «وجهة نظره» الناقصة، وقد تكون لغته جيدة، ومراجعه كثيرة، ولكن كل ذلك لا يشفع له في أن يكون «باحثًا» في الدكتوراه, وهذا تسجيل لواقع ملموس.
لا يمكننا أن نلقي باللائمة على طلبتنا؛ فهم نتاج تكويننا؛ وما هذا الغصن إلا من تلك الشجرة.. لكن المسؤولية الكبرى يتحملها الجسم الأكاديمي العربي الذي لم يتطور، ولم يحدد بالضبط ما هي «فكرة» الجامعة؟ هل الجامعة للبحث العلمي؟ أم لتكوين الموظفين؟ الجامعات المتطورة في العالم تتركز على البحث العلمي في كل الاختصاصات، ومن بينها اللغة والأدب. بالنسبة إلينا لا نزال نفكر في استحالة دراسة الأدب علميًّا؛ ولذلك نقدم لطلبة الدكتوراه في قسم اللغة العربية وآدابها تكوينًا لا علاقة له بالمنهج، ولا بالتحليل، ولا بالعلم.. نحشو أذهانهم بالمعلومات التي لا تنفع ولا تضر.. ونعتبر الطالب الجيد هو الذي يمتلك من المعلومات ما لا يوجد عند غيره، ويحفظ من المتون ما لا يتأتى لسواه. أما تطوير ملكة التفكير والسؤال والنقد البناء، وتطوير إجراءات البحث العلمي، فهذا مغيب نهائيًّا؛ لأن الأساتذة الذين يدرسون في الدكتوراه، ويشرفون على الأطروحات، غير منشغلين بمثل هذه الأمور التي يرونها متصلة بالأقسام العلمية.
لا غرو أن نرى طلبتنا على خلاف طلبة الكليات العالمية؛ فهم ينشغلون بالموضوعات المتكررة، وباجترار الطرائق نفسها، ولا يطرحون الأسئلة، ولا تبرز شخصيتهم في أبحاثهم.. إن موضوعات البحث مكرورة (الحجاج، الرواية التاريخية، التناص، الأدب الرقمي...)، ولن تجد فيها أي جديد, ومن أين يأتي الجديد إذا كانت مرجعية الطالب تعتمد على الترجمات غير الدقيقة والمراجع المتقادمة؟ أنَّى له أن يفكر، وهو بدون وعي معرفي أو إبستيمولوجي بالقضايا والإشكالات والمناهج؟ وأنَّى له أن يسهم في المعرفة العلمية الإنسانية وهو لا يمتلك لغة أجنبية يطلع على جديد ما ينشر فيها، وعلى ما وصل إليه البحث العالمي؟ أنَّى للطالب أن ينجز أطروحة، وهو لا يعرف ما هو «الاختصاص» الذي يشتغل في نطاقه؟
إن الطالب عندنا في مرحلة الدكتوراه لا يختلف عن طالب البكالوريوس؛ يفكر في الامتحان والنجاح فقط! فأنَّى له أن يستقل بوعي معرفي دقيق وهو ينتظر سؤالاً قد يكون مصيريًّا بالنسبة إليه من قبيل: كم لجرير من الولد؟ أنَّى لمن يمتلئ بمثل هذه المعلومات أن ينتج معرفة علمية؟ لا يزال الطالب عندما يصل إلى مرحلة الدكتوراه لا يفرق بين المناهج، ويطلب من الأستاذ المشرف أن يقترح عليه: الموضوع، والمتن، والمنهج؟ ومعنى ذلك أنه بلا هوية «أكاديمية».
ساهم تغييب الوعي بأهمية الدراسة العلمية في جعل البحث الجامعي منفصلاً عن المعرفة العلمية؛ وهذا من عوامل تأخُّر البحث العلمي في ثقافتنا العربية.
** **
- د. سعيد يقطين
للتواصل مع (باحثون)
multaqa38@gmail.com