طرح صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز، رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، في جلسة لسموه أمس الأول الأربعاء، ورقة بعنوان «بدأ الإسلام في جزيرة العرب منذ خلق الله الإنسان» شاركه فيها كل من الدكتور فهد السماري المستشار بالديوان الملكي، أمين عام دارة الملك عبدالعزيز المكلف، والدكتور علي الغبان نائب رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، المشرف العام على برنامج خادم الحرمين الشريفين للعناية بالتراث الحضاري، فيما أدار الجلسة الدكتور خليل البراهيم مدير جامعة حائل، وذلك ضمن جلسات ملتقى آثار المملكة الأول المقام حالياً في مركز الملك عبدالعزيز التاريخي بالرياض.
قراءة جديدة
وأكد سموه في الورقة، أن من المهم في هذا العصر الذي يجد فيه المسلمون أنفسهم في مواجهة مع الحضارات الأخرى، أن نعيد التفكير فيمن نحن، وما هو دورنا في الحراك الإنساني المستقبلي، منطلقين من قراءة جديدة في تاريخ الإسلام الذي بدأ «والله أعلم» منذ خلق البشرية، وأن كل ما حدث منذ ذلك الوقت الذي لا يعلمه إلا الله، كان تسلسلاً يؤدي إلى بزوغ شمس الهداية والخير من مكة المكرمة في قلب الجزيرة العربية، وعلى يدٍ عربيةٍ من خيرة أهلها في فترة زمنية مهمة كانت فيها مكة المكرمة محوراً استراتيجياً حضارياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً، وملتقى للقوافل التي جاءت للحج والتجارة، مما شكل كياناً ذا قوة سياسية متنامية، وساعد على انتقال رسالة الإسلام والقرآن الكريم بلغته العربية الراقية التي تطورت عبر آلاف السنين حتى نزل بها القرآن الكريم، إلى أرجاء المعمورة، مما يؤكد أن الإسلام العظيم لم ينشأ من أرض مفرغة من الحضارات أو المعرفة أو الأخلاق أو القيم العربية الأصيلة.
وأشار سموه إلى أن الإسلام الذي جاء لكي يؤكد التوحيد وهو دين البشرية وخاتم الأديان، وأن الله سبحانه اختار أرض الجزيرة العربية وشعبها لحمل هذه الرسالة السامية منذ خلق الله البشرية، وأن التعاقب الحضاري والبشري والاقتصادي الكثيف على هذه الأرض المباركة عبر التاريخ يدل على حراك مستمر لتهيئة المكان والإنسان لحمل هذه الرسالة السامية للعالم، مبيناً أن هذا البحث جاء من منطلق أن الله اختار أرض الجزيرة العربية وشعبها لحمل هذه الرسالة السامية منذ خلق الله البشرية، وأن التعاقب الحضاري والبشري والاقتصادي الكثيف على هذه الأرض المباركة عبر التاريخ يدل على حراك مستمر لتهيئة المكان والإنسان لحمل هذه الرسالة السامية للعالم.
الإسلام جوهره التوحيد
وأوضح سموه أنه بدأ في التفكير لإعداد هذه الورقة منذ أربع سنوات، مبيناً أنه بدأ الاهتمام بالآثار والتراث منذ صغره وكنتيجة لمرافقة والده الملك سلمان بن عبدالعزيز «حفظه الله» للمواقع التراثية والأثرية، فقد كان الملك سلمان شغوفاً بالتراث كثير الاطلاع على كتب التاريخ وزيارة المواقع التاريخية، وهذا ما ورثه الأمير سلطان عن والده، وأضاف: «كنت أتساءل هل دورنا فقط في التنقيب عن الآثار، وأن نخرج قطعاً أثرية ونضعها في المتاحف فقط، أم يفترض أن يكون أكبر من ذلك؟
وما هو الرابط بين كل هذا التاريخ وهذا التراكم الحضاري وما نحن عليه اليوم؟».
ولفت سموه إلى أنه طرح ورقته التي عرضها في هذه الجلسة، على مجموعة من العلماء الأجلاء ومجموعة من خبراء الآثار، وأنه يطرحها في هذا الملتقى لاطلاع المهتمين من أجل الدراسة والتمحيص والنقد، مؤكداً أنها تحوي مواضيع مهمة، و تربط قصة نشوء الإسلام بخلق البشرية، وتهيئة الوقت والمكان بما حدث قبل الإسلام لبزوغ شمس الهداية والخير من مكة المكرمة.
وقال سموه في هذه الورقة: «في محاضرة ألقيتها في مركز أكسفورد للثقافات الإسلامية في عام 1431هـ و1يونيو 2010م وأيضاً محاضرة في عام 2014م، طرحت فكرة مفادها أن الإسلام هو جوهره التوحيد الخالص لله تعالى هو دين الفطرة الذي اختاره الله سبحانه وتعالى للبشرية وخلقها، وأن اختيار الجزيرة العربية مهد للإسلام والرسالة الخاتمة التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم، ما هي إلا امتداد لذلك التدبير الإلهي، وأن مسار الحضارة في الجزيرة العربية مرتبط بهذا الموضوع الأهم في تاريخها.
ولذا فإن الإسلام لم ينزل في أرض فارغة من الحضارات، وأن كل ما وقع على أرض الجزيرة العربية من أحداث وتقاطعات حضارية وإنسانية كانت بمثابة مقدمات وبشائر هيئت إلى بزوغ شمس الإسلام من هذه الأرض المباركة؛ لذلك فإن العناية بآثار حضارات الإنسانية على أرض الجزيرة العربية هي في نظري من باب العناية بتاريخ الدين الإسلامي العظيم في مكان قدر الله أن يكون مهيئاً منذ وعبر مراحل تاريخ وتعاقب الاحتضان لانطلاقة أعظم دين للبشرية جمعاً في لحظة تاريخية مقدرة منذ الأزل والله أعلم.
لقد دفعني ذلك الطرح إلى استقراء تاريخ الجزيرة العربية وعلاقته بدعوة التوحيد من خلال ما هو متاح حتى الآن من معلومات توصل إليها علم الآثار، وبعد تفكير وتأمل وتداول الآراء حيال هذا الموضوع المهم مع نخبة من علماء الشريعة وعلماء الآثار والتاريخ الأفاضل الذين أثروا هذا الموضوع بأفكارهم النيرة وملاحظاتهم حتى جاءت هذه الورقة.
إعادة بناء الكعبة
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز «إن الدين عند الله الإسلام»، وآدم عليه السلام هو أبو البشر والمسلمين، إذ قال الله تعالى: «إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين». ويرد في بعض المصادر الإسلامية، أن آدم عليه السلام عندما بعثه الله إلى الأرض اجتمع بزوجته حواء قرب مكة، وعلى الرغم مما ذهب إليه كثير من أهل العلم أن اجتماع آدم وحواء قرب مكة رواية وردت في الإسرائيليات، وهناك طبعاً نقاش حول الإسرائيليات، فإن هذه الرواية تدل على قدم تلك الأماكن المقدسة، وأنها شهدت بواكير كيانات الأمة الواحدة، ونستشهد بقوله سبحانه وتعالى: «إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين» وحيث يذكر بعض المفسرين إن إبراهيم عليه السلام عندما أمره الله بالتوجه إلى مكة في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، قام بإعادة بناء الكعبة، وأن قواعدها كانت مدفونة في ربطة صغيرة في وسط الوادي وأن بناءها كان في زمن سابق لإبراهيم عليه السلام ويستدلون بذلك في قوله تعالى: «وإبراهيم إذ يرفع القواعد من البيت» أي أن قواعد البيت كانت أساسات وكانت موجودة من قبل وهو أول من رفعها على الأساس الذي بنيت عليه الكعبة في زمانه عليه السلام.
دين شامل للعموم
لقد أراد الله سبحانه وتعالى أن يكون الإسلام الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، آخر الأديان وخاتمها قال تعالى «مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ» ولكونه خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم فإن الدين الذي جاء به هو دين شامل لعموم البشرية وعلى مختلف الأزمان وهذه الحقيقة تدعونا للإجابة على هذين السؤالين، لماذا اختار الله سبحانه وتعالى نزول الإسلام في مكة المكرمة في جزيرة العرب؟ ولماذا وضع الله سبحانه وتعالى أول بيت للعبادة في مكة المكرمة، في قلب جزيرة العرب أيضا؟ وبين الحدثين أصول وتطاول عمر الإنسان، ذلك ليس مجرد مصادفة فإن الله سبحانه وتعالى يقول «وكل شيء عنده بمقدار»؛ ولعل الله سبحانه وتعالى أراد رسالة الإسلام تكتمل حيث بدأت والله سبحانه وتعالى أعلم.
إن الدراسات الأثرية وعصور ما قبل التاريخ في الجزيرة العربية انطلقت متأخرة بلاشك مقارنة بما وجد من خلال الأبحاث الأثرية في شرق أفريقيا ومناطق أخرى من العالم، وهي في المملكة العربية السعودية حديثة نسبياً وعلى الرغم من ذلك فإن نتائج الأبحاث والمسوحات الأثرية التي قامت ويقوم بها قطاع الآثار والمتاحف في الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني بالتعاون مع الجامعات السعودية ومع خبراء محليين ودوليين، تشير إلى أن وجود الاستيطان البشري في مواقع عدة في المملكة يعود تاريخ بعضها لفترة العصر الحجري القديم، فهناك مواقع عدة في مكة المكرمة في فترة العصر الحجري القديم والعصر الحجري الحديث للفترات المتعددة تغطي الفترة الزمنية الممتدة منذ 350 ألف سنة قبل الوقت الحاضر نزولاً إلى 7000 سنة قبل زمننا هذا.
وعلى أية حال فإن الجزيرة العربية بجميع مناطقها شمالاً جنوباً شرقاً غرباً ووسطاً لم تكن يوماً من الأيام خاوية من الحياة أو خالية من السكان؛ بل إنها أحد أقدم مناطق الاستيطان البشري في العالم القديم وذلك بشهادة الأدلة الأثرية المستكشفة والموثقة علمياً حتى الآن.
كانت مروجاً وأنهاراً
إن علم الآثار علم متجدد يكتشف من مكوناته، ولذلك نلاحظ في الآونة الأخيرة أن علماء الآثار المختصين في دراسات علم الإنسان في جميع أنحاء العالم يركزون في أبحاثهم على الجزيرة العربية، وقد قاد هذا التوجه علماء آثار مشهورون في أوروبا وأمريكا وعلماء من المملكة العربية السعودية ودول الخليج والدول العربية الأخرى، إلى دراسة معابر الهجرات الإنسانية الأولى للإنسان القديم عبر الجزيرة العربية قبل انتشاره في بقية أنحاء العالم، وقد كان العثور على أدلة أثرية تؤكد هذه الحركة المبكرة في تاريخ الإنسان في أرض الجزيرة العربية وفي المملكة العربية السعودية بالتحديد، وعدد من دول الخليج العربي واليمن أثر كبير في تحويل قضية عبور الإنسان من فرضية إلى حقيقة علمية ثابتة.
ومن جانب آخر فإن البعثات الأثرية المشتركة الدولية العاملة مع الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني ويزيد عددها الآن عن 34 فريق في المملكة، وبالتعاون مع عدد من المؤسسات العلمية والبحثية السعودية، منها شركة أرامكو وهيئة المساحة الجيولوجية والجامعات السعودية ومدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، في إطار مشروع الجزيرة العربية الخضراء مع جامعة أكسفورد المرموقة، أثبتت بالأدلة الأثرية والبنتولوجيا، أن الجزيرة العربية كانت مروجاً وأنهاراً وأنها شهدت أكثر من عشرة آلاف بحيرة جافة تم توثيقها بمنطقة الربع الخالي وشمال المملكة حتى الآن، وهناك الآلاف الأخرى، وأنها شهدت فترات عدة من التصحر والمناخ الرطب وأنها كانت غنية بالأنهار والبحيرات قبل التصحر الأخير الذي يعود إلى عشرة آلاف سنة قبل الوقت الحاضر، وهذه النتائج الأثرية أصبحت الآن حقائق معترف بها لدى علماء الآثار والمناخ القديم في جميع أنحاء العالم مصداقاً لحديث رسول الأمة صلى الله عليه وسلم: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ الْمَالُ وَيَفِيضَ، حَتَّى يَخْرُجَ الرَّجُلُ بِزَكَاةِ مَالِهِ، فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهَا مِنْهُ، وَحَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ مُرُوجًا وَأَنْهَارًا «. رواه مسلم.
الأوروبيون منحدرون من الجزيرة العربية
وبعد دراسة معابر الهجرات الأولى، نُشرت دراسة اعتقد أنها في العام الماضي قام بها مجموعة من الباحثين من جامعة كورنيل الطبية بالولايات المتحدة الأمريكية، وجرت على جينات السكان الأصليين في الجزيرة العربية، وأثبتت أن السكان الأصليين لقارتي أوروبا وآسيا استوطنوا في أرض الجزيرة العربية قبل أن ينتقلوا منها أو أنهم منحدرون من سكان الجزيرة العربية.
بالإضافة إلى ذلك فإن المتأمل في التاريخ الحضاري في الجزيرة العربية، يدرك أن مسار هذا التاريخ بني على قضية التوحيد منذ أن وضع الله بيته الأول في قلب الجزيرة العربية ومروراً بالأمم البائدة عاد وثمود التي هي عاشت على أرض الجزيرة العربية، وورد ذكرها في القرآن الكريم وانتهاءً بالإسلام الرسالة الخالدة في المكان نفسه. وكل ما كان بين هذا وذاك وقبله والله أعلم كما في اعتقادنا تهيئة وتحضير لاستقبال أعظم حدث شهده العالم كما قلت، وشهدته الجزيرة العربية على الاطلاق في تاريخها، هو نزول القرآن الكريم على آخر الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم وتكليفه صلى الله عليه وسلم برسالة الإسلام العظيمة إلى الناس كافة.
وإن ما قام به أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام والرسالات السماوية والأديان التي جاءت بعده في منطقة الشرق الأدنى، ما هي إلا تجديد كعقيدة توحيد وتمهيد مبكر لبزوغ شمس الإسلام من أرض الجزيرة العربية، وإن كان الفارق الزمني بين إبراهيم عليه السلام ومحمد صلى الله عليه سلم يناهز 24 قرناً فخلال تلك الفترة ظهرت الممالك العربية على أرض الجزيرة العربية المبكرة مدين ودوم وقيدار والمتوسطة سبع ولحيان ومعين وكندة الأولى والأنباط والمتأخرة الغساسنة والمناذرة وكندة الثانية أشهرها طبعاً.
قوة اقتصادية وسياسية
وتشكلت المقومات الرئيسة للجزيرة العربية التي اعتمدت على التجارة عبر منظومة طرق التجارة جنوباً وشمالاً وشرقاً وغرباً وطرق الحج التي أيضاً ارتبطت معها طرق التجارة مستفيداً من الموقع الجغرافي المتميز للجزيرة العربية بوصفها نقطة التقاء الحضارات شرق العالم القديم وغربه.
إن نشوء هذه الممالك والحضارات والحراك الاقتصادي المصاحب والقوى الحربية العسكرية التي نشأت لتأمن وتحمي التجارة الدولية، هيأت سكان الجزيرة العربية عبر الوقت والعصور ثقافياً واقتصادياً وعسكرياً وسياسياً لحمل الأمانة الكبرى وهي استلام رسالة الإسلام ونقلها إلى العالم أجمع.
إن التزام شعوب هذه الأرض المباركة بذلك هو أساس لاستمرار نعم الله عليهم من خير وأمن ورفعة، كما أن بناء الكعبة جعل أفئدة من الناس تهوي إلى هذا المكان نتيجة إلى أن الجزيرة العربية وقلبها مكة المكرمة كانت هي مول للحج مصحوبة بالتجارة، وتبع ذلك النشاط المنظم لرحلات الشتاء والصيف والنشاط الاقتصادي والثقافي لسوق عكاظ وغيره من أسواق العرب المشهورة قبل الإسلام. فأصبحت الجزيرة العربية عبر مراحل تاريخها قوة اقتصادية وسياسية وحضارية وثقافية مهيأة لنزول القرآن الكريم وبزوغ شمس الإسلام في لحظة تاريخية مقدرة كما ووصلت فيها تلك المعطيات ذروتها في مكة المكرمة في مطلع القرن السابع الميلادي تقريباً كأحد أو أهم قوة سياسية عسكرية ثقافية على أرض الجزيرة العربية في ذلك الوقت.
وبعد نزول الإسلام وبعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وتوحيد قبائل الجزيرة العربية لتسهم في حمل راية الإسلام إلى بقية شعوب الأرض، وهي أول وحدة شهدتها الجزيرة العربية في تاريخها. فنهض شعب الجزيرة العربية لمساندة نبي الأمة لتوحيد أرجائها ونشر الرسالة، وتأسيس الدولة الإسلامية الكبرى التي تعاقبت داخل الجزيرة العربية وخارجها.
وقد شهدت الجزيرة العربية بعد ذلك نشأة العديد من الدويلات والأمارات الصغيرة، وعاشت حالة من الشتات السياسي والاجتماعي كما هو معروف حتى قامت الدولة السعودية المباركة في منتصف القرن الثامن عشر الهجري بتوحيد أجزاء كبيرة منها سياسية وجغرافياً واجتماعيا،ً وبناء كيان راسخ أساسه الإسلام وخدمة المسلمين وترسيخ القيم العربية والإسلامية السامية وبناء الإسلام وإعمار المكان وتحقيق الأمن والاستقرار والازدهار والمساهمة في مستقبل الإنسانية جمعاء وربط العزة والخير مرة أخرى بالدعوة والتوحيد وخدمة الحرمين الشريفين وإعلاء كلمة الإسلام شعاراً ومنهاجاً لها.
وقد تمسك بذلك أئمة الدولة السعودية المؤسسون ومواطنوها طوال تاريخها الذي امتد قرابة ثلاثمائة عام وحتى هذا اليوم ولله الحمد، ولقد أكد ذلك الملك المؤسس عبدالعزيز رحمه الله وجميع أبنائه ملوك الدولة من بعده بدون استثناء كما التزم به جميع المواطنين الذين نهضوا لجمع شتات هذه البلاد المباركة وتوحيدها مؤكدين أن خدمة الحرمين الشريفين والإسلام والمسلمين في أعلى مراتب رسالة الدولة ومهمتها الأولى.
ما هو دورنا في الحراك المستقبلي؟
ولا شك أن مستقبل الدراسات الميدانية في الجزيرة العربية وعلى وجه الخصوص في المملكة العربية السعودية وما حولها التي تشكل ثلثي مساحتها، كفيل بالإجابة على التساؤل الكبير الذي يطرحه الكثير من الناس وهو هل بدأت حقاً حياة الإنسان في شرق أفريقيا وفقاً لما يقوله علماء الآثار ولماذا؟
لقد أتى هذا البحث من منطلق الإسلام الذي جاء لكي يؤكد التوحيد وهو دين البشرية وخاتم الأديان، وأن الله اختار أرض الجزيرة العربية وشعبها لحمل هذه الرسالة السامية منذ خلق الله البشرية وأن التعاقب الحضاري والبشري والاقتصادي الكثيف على هذه الأرض المباركة عبر التاريخ يدل على حراك مستمر لتهيئة المكان والإنسان لحمل هذه الرسالة السامية للعالم.
وهذا يطرح هذه الورقة مستنيراً بهداية الله سبحانه وتعالى، فإنما هي محاولة مخلصة لقراءة أكثر شمولية لأهم قضية تمس الإنسان والجزيرة العربية والمسلمين كافة، فمن المهم في هذا العصر الذي يجد فيه المسلمون أنفسهم في مواجهة مع الحضارات الأخرى، أن نعيد التفكير فيمن نحن وما هو دورنا في الحراك الإنسان المستقبلي منطلقين من قراءة جديدة في تاريخ الإسلام الذي بدأ والله اعلم منذ خلق البشرية، وإن كل ما حدث منذ ذلك الوقت الذي لا يعلمه إلا الله كان تسلسلاً يؤدي إلى بزوغ شمس الهداية والخير من مكة المكرمة في قلب الجزيرة العربية وعلى يدٍ عربيةٍ من خيرة أهلها في فترة زمنية مهمة كانت فيها مكة المكرمة محوراً استراتيجياً حضارياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً وملتقى للقوافل التي جاءت للحج والتجارة، والتي قلت في محاضرة أكسفورد إنها وفرت وسيلة تواصل عالمية مثل ما تقوم به الشبكة العنكبوتية، مما شكل كياناً ذا قوة سياسية متنامية وساعد على انتقال رسالة الإسلام والقرآن الكريم بلغته العربية الراقية التي تطورت عبر آلاف السنين حتى نزل بها القرآن الكريم إلى أرجاء المعمورة كل ذلك يؤكد أن الإسلام العظيم لم ينشأ من أرض مفرغة من الحضارات أو المعرفة أو الأخلاق أو القيم العربية الأصيلة مصدقا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» التي كان العرب ينتمون لها ويعتزون بها.
في الختام أقول: إننا ننظر إلى المستقبل واثقين بالله تعالى إن شاء الله بأن شعب هذه الأرض المباركة قادر بمشيئة الله تعالى على بناء مستقبل زاخر بالخير والازدهار، الأرض التي شهدت أحداثاً مهمة عبر أطوار التاريخ وتشاهد ذلك اليوم وتقاطعت عليها الحضارات، ما دام هذا الشعب ثابتاً على المبادئ السامية والرسالة التاريخية التي حققت له الخير والأمن والاستقرار».