د. محمد بن إبراهيم الملحم
تحدثت في المقالة السابقة عن أولئك المعلمين من الفئة المتوسطة التي لا تشكو مشكلات نفسية، ولكنها تمارس ضرب الطلاب والذي لا يكون نتيجة اجتهاد المعلم، وإنما يصدر كرد فعل نفسي نحو سلوك الطالب (وليس أداءه الأكاديمي)، وأوضحت أنّ هذه الممارسة هي غالباً تفريغ نفسي، وعلى الرغم أنه فعل خاطئ ولا يبرره سببه النفسي أمام المحاسبة النظامية التي يستحقها هذا المعلم المتجاوز، بيْد أني رأيت التعريج على أسباب «الضواغط النفسية» التي تنتج محلياً في مؤسساتنا التعليمية لتقف بجوار الضواغط الأخرى التي تؤزمه كتلك الاجتماعية والاقتصادية وصعوبات الحياة اليومية.
أول هذه العوامل هي البيئة الإدارية المدرسية، حيث عندما تكون إدارة المدرسة مترسلة والحبل على الغارب لا تعاقب ولا تحاسب الطلاب، يستشعر المعلم أنّ حفاظه على قيمته وكرامته كمعلم (وربما كرجل محترم) هي مهمته هو فقط داخل الفصل، ويزيد الأمر حدة ليصل إلى الضرب والتعنيف، عندما تكون إدارة المدرسة «تدلل» الطلاب وأولياء أمورهم بدرجة تستفز المعلمين وتشعرهم
أنهم مجرد تروس لآلة المدرسة، ويقاس على ذلك ما يحدث من الإدارات الأعلى من المدرسة كمكاتب الإشراف أو إدارة التعليم، فعندما تتبنى كلٌ منهما مدرسة المبالغة في الرعاية وتحصيل رضا «العميل/ ولي الأمر/ الطالب» على حساب المعلم، فإنّ انتشار هذه الثقافة ضمن المدارس يشعر المعلم بعدم الأمان النفسي نحو قيمته الشخصية وحقوقه وربما كرامته أحياناً، فتصدر منه مثل هذه التصرفات، وعندما نمضي في التحليل سنكتشف أنّ هذه الممارسات الإدارية هي نتيجة ثقافة عمل أو ممارسات توظيفية للأنظمة أدت بهؤلاء المدراء والقيادات إلى هذا النمط المدمر لشخصية المعلم والمسبب لاستفزازاته.
العامل الثاني هو أنّ أنظمة رعاية سلوك الطالب تحت رحمة وعناية واحدة من أضعف الوظائف في تعليمنا وهي الإرشاد الطلابي... بل كانت يوماً ما المتنفس الرائع للمعلم الذي ملّ العملية التدريسية ليتخلص منها ويتربع على عرش مكتب الإرشاد الطلابي، حيث يطلب الطلاب ودّه ورضاه ليمنحهم الأعذار للخروج أو التأخر، وظلت هذه الثقافة تؤز هذا الكيان الحساس أزاً، حتى كثر عليه الكلام والتفت إليه أصحابه فحشوه بالأعمال الكتابية والتوثيقية التي تثبت للمتشككين أنه يزاول شيئاً ذا قيمة، وأظنه لا زال كذلك لعلمي أنّ غياب أدوات التقييم الأصيل التي تفتقر إليها منظومتنا التعليمية، كفيل بضمان عدم الوصول إلى تحسين حقيقي للجودة، كل هذا السيناريو يضغط أيضاَ على المعلم الذي فقد الأمل في سلوك وانضباط الطالب، كما فقد الأمل فيمن سيحيل الطلاب إليهم، ليلجأ إلى الضرب أو التعنيف.
العامل الثالث هو تراجع مستوى القيادات التربوية معرفياً خاصة فيما يتعلق بالجانب التربوي والنفسي، ووجود أزمة توازن بين تصوراتهم السطحية عن العملية التربوية والأنظمة الضابطة لهذه العملية، بما يكفل حق الطالب وعدم التعدي عليه، وهذا النقص يحميه لجوؤهم إلى التطرف في المنع بدلاً من الاجتهاد في السماح، وهو ما يحدو بهم غالباً إلى تجنب تفعيل الأنظمة أو حتى الاجتهادات التصحيحية خوفاً من الأخطاء، مما يجعل التطبيق غالباً مائل الشق خاوي الروح فاقد المهنية، وهذه الصورة حاضرة بشكل أو بآخر في ذهن المعلم المتضرر من سلوك الطلاب، مما يجعله يلجأ إلى الاجتهاد بالضرب، بدلاً من اللجوء إلى من لا يلوون على شيء أو قد يفسدون الأمر بدلاً من إصلاحه.
هناك عاملان آخران يضغطان على المعلم أيضاً، سأتناولهما في المقالة القادمة لأهميتهما: دور ولي الأمر ودور المؤسسة نحو السلوك تنفيذياً (لا تنظيمياً)، وسوف أستشهد بإجراءات إحدى الدول الأوروبية في هذا الشأن، لعل هذا يقنع بعض الناس...