د.علي القرني
عاشت بلادنا خلال الأيام الماضية حالة استثنائية في التاريخ الإداري للمملكة، فما حدث من بدايات لمحاكمات لشخصيات ضالعة في فساد مالي من شأنه أن يردع كل من تسول له نفسه أن يقف ضد حقوق المواطن وممتلكات الدولة. وفي هذا الزخم الكبير للموضوع الذي احتل اهتماماً وطنياً وعربياً ودولياً كبيراً، فإن الأنظار ربما تتجه أو ينبغي أن تتجه بنفس السياق إلى موضوع آخر لا يقل أهمية من الفساد المالي، وأعني هنا الفساد العلمي. وتحديداً كما كتبت في الأسبوع الماضي في هذه الصحيفة فإن المملكة بحاجة إلى نظام وطني للنزاهة العلمية.
وحددت هناك أن الظلم يحدث للأشخاص الذين يبلغون أو يكشفون عن الفساد وخاصة تلك القضايا الواضحة وضوح النهار ويعاقبون بمحكمات ليس الهدف منها إحقاق الحق أو التأكد من وجود احتيالات أو سرقات علمية بل الهدف منها هو معاقبة هولاء الرواد ممن يكافح ويجاهد في سبيل كشف هذه الألاعيب التي بدت تستشري في بعض الأشخاص وهم يعملون في جامعات أو مؤسسات علمية. وهذه المحاكمات تأتي بهدف الضغط على هولاء الرواد من أجل تسجيل اعتذار لهم على أنهم كشفوا هذه السرقات، ولم تكن تلك المحاكمات موجهة في جوهر القضية: هل حدثت السرقات أم لا؟ ومن هنا فإن المملكة بما تمتلكه من قوة علمية وتفوق بحثي في جامعاتها ومؤسسات التعليم العالي فيها هي أحوج ما تكون لمثل هذا النظام الوطني الذي سيسهم في تعزيز النزاهة العلمية وتقوية مكانتها وأهميتها في مؤسسات التعليم.
والنزاهة هي كل وليست بعض، فلا يمكن أن نقدم جزءاً منها ونهمل جزءا آخر.. والفساد هو الوجه الآخر للنزاهة، فإذا استطعنا أن نبني مفاهيم النزاهة ونعززها في الشخصية الوطنية فإننا بلا شك سنساعد على تقويض حيل الفساد ومسبباته وإرهاصاته في الشخصية سواء أكان طالباً أو أستاذاً أو مواطناً أو حتى مقيما. ونرى أن بلادنا في ظل هذه الثورة الجديدة على الفساد يجب أن تلتفت إلى نوع آخر من الفساد - المحدود ولله الحمد ولكن قليله كثير، ومن شأن حالة واحدة من الفساد العلمي أن تقوض أركان جامعة شهيرة إذا لم تتصدَ تلك الجامعة لمثل هذه الحالات. والجامعات العالمية لديها أنظمتها وقوانينها التي تحد وتردع من اختلال الأمانة العلمية لدى باحثيها وطلابها وأساتذتها، وهذا من شأنه أن يقوي من تلك المؤسسات التعليمية كهارفارد أو إم أي تي أو ستانفورد أو أوكسفورد أو كيمبردج وغيرها من الجامعات المرموقة حول العالم.
وحتى الآن وبسبب غياب أنظمة للنزاهة العلمية في جامعاتنا وكذلك غياب مثل هذه الأنظمة في وزارة التعليم أدى إلى تحويل قضايا فساد واحتيال وسرقة علمية إلى جهات ذات غير اختصاص. ومن هنا فإن أكرر- لأهميته - بعض ما ذكرته في المقال السابق من أهمية إيجاد نظام وطني للنزاهة العلمية مبني على خلفية النقاط التالية:
1. تتأسس في كل جامعة وحدة خاصة أو لجنة مختصة بالسرقات والتحايلات العلمية، ويكون بعض أعضائها من خارج الجامعة لاكتساب مزيد من النزاهة في قراراتها. ولا تكون قراراتها معتمدة إلا بعد اعتمادها من مجلس الجامعة أو مجلس الأمناء كما هو في النظام الجديد للجامعات.
2. تؤسس وزارة التعليم في هيكلها الإداري وحدة مختصة تحت مسمى «وحدة النزاهة العلمية»، وتكون هي المرجعية النهائية في البت في أي قضية سرقة أو تحايل علمي، وتضع هذه الوحدة أنظمة وقوانين ولوائح تنفيذية وخطوات إجرائية وعقوبات محددة لمواجهة قضايا السرقات والقضايا.
3. وبالتالي يتم سحب اختصاص النظر في قضايا السرقات والتحايلات العلمية من وزارة الثقافة والإعلام (لجنة النظر في مخالفات حقوق المؤلف) وتعطى إلى وحدة النزاهة العلمية بوزارة التعليم، حيث أثبتت تلك اللجنة عدم تمكنها من البت في أمور واضحة جدا، ودليل ذلك هناك قضايا ضد هذه اللجنة في ديوان المظالم.
4. يتم إيقاف كل المحاكمات التي واجهها أكاديميون كتبوا أو كشفوا عن السرقات والتحايلات العلمية، وإحالة موضوعاتهم إلى وحدة النزاهة العلمية بوزارة التعليم، ويصبح موضوع تلك القضايا هو هل توجد سرقات علمية أم لا، وليس هل هناك تشهير بمن سرق وتحايل.
5. من الواضح أن نظام مكافحة الجرائم المعلوماتية ليس له علاقة البتة بموضوع السرقات العلمية، فهو نظام يتتبع مكافحة الجرائم الأمنية التي تمس بأمن واستقرار البلاد، ولهذا لا يصبح هو المرجعية لحالات السرقات العلمية، وبديلا عن ذلك تصبح وزارة التعليم هي الجهة والمرجع الأساسي لكل قضايا السرقات العلمية.
6. تعفى المحاكم الشرعية من أي موضوع يتعلق بسرقات علمية لعدم الاختصاص، ولوجود مرجعية علمية في هذه الموضوعات. تختص بها وحدة النزاهة العلمية بوزارة التعليم.
وبناء على ذلك يمكن أن يصبح لدينا نظام وطني للنزاهة العلمية، سيضيف كثيرا لصورة المملكة في الخارج، ويرفع من معيار الشفافية الذي بدأت المملكة ترتقي فيه بفضل الله ثم بفضل اهتمام القيادة السياسية، في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وسمو ولي عهده الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز يحفظهما الله. وما نتمناه هو أن نسمع قريبا توجيها ملكيا باستصدار مثل هذا النظام.