د. فوزية البكر
مساء ليلة الأحد (4 نوفمبر 2017) لم تكن ككل أحد . تدحرج الكثيرون ومعهم تدحرجت أحلام النعم والمال والعز والجاه ليقف الجميع في ذهول أمام عزيمة رجل لا تقهر. إنها عزائم القادة العظام الذين لا يكررهم التاريخ كل يوم. أنا شخصيا وأظن الكثير مثلي ذهلت وكنت ولا زلت في حالة من عدم التصديق أن ذلك فعلا يحدث . هل فكرنا ولو في أعتى أحلامنا أن هذا سيحدث فعلا ؟ كم من المرات والمرات التي مررنا بأرض شاسعة تم تسويرها سرقة عيانا بيانا من لقمة عيش المواطن، وكم من البلايين التي تم التهامها أمام أعيينا دون أن نملك قوة لقهر المارد الذي تمددت أجنحته على صدر مملكتنا وخاصة في الثلاثين سنة الأخيرة ليتداخل الفساد مع كثير من المشاريع والمبادرات والوزارات والمؤسسات العامة والخاصة حتى بدا أنه تيار هادر لا يقف في وجهه أي جبروت ولا رفض ولا دين ولا قيمة فهل حقا جاءنا القائد الأسطوري ليعيد المارد الفاسد إلى قمقمه دون رجعة؟
يلعب الفساد دورا مدمرا في حياة الأمم والمجتمعات وله آثار اقتصادية واجتماعية وقيمية لا حد لها ليس أقلها الإحساس بالعجز تجاه المارد وهو ما تمكن مليكنا الحبيب وولي عهده الأمين من زعزعته وإعادة إحياء الأمل في قلوبنا يوم الرابع من نوفمبر المجيد.
ولا يقتصر الفساد بالطبع على المؤسسات الحكومية بل هو بيئة نشطة حين توجد تمتد أذرعها للقطاعات الخاصة التي تشرب من نفس الكأس باعتباره شرابا مقبولا من صناع القرار كما أنه الطريق الأكثر سهولة لصناعة المال لكلا الطرفين وهو ما يمهد لصناعة الثروات غير المشروعة والتي يجد الموظفون البسطاء العاديون داخل القطاعات الحكومية والخاصة أنفسهم غارقين في آليات تنفيذها فهي تحدث أمام أعينهم لكنهم عاجزون عن السيطرة عليها بفعل تداولها (المقبول قيميا) من قمم الهرم وصناع القرار وتساعد الإجراءات البيروقراطية العقيمة والمعاملات الطويلة وخاصة في القطاع الحكومي على إخفاء الكثير من آثار الفساد (وخاصة المالي) منه بحيث ينسى في ظل التغير المعتاد للقيادات بعد أن امتلأت مالا وعقارا ليأتي من يليها مع منتفعيه ورجاله إذ تتعدد صور الفساد في شكل رشوات أو عمولات مباشرة أو وساطات أو تضارب مصالح أو تقريب أقرباء ومنتفعين أو السكوت والمشاركة في اقتسام الكعكة كبيرة كانت أو صغيرة حتى تذوب مصالح البلد وتضيع الكثير من المنافع على المواطن والوطن.
ولا يؤثر الفساد في بيئة الوطن الداخلية فقط بل يمتد بآثاره على البيئة الاستثمارية وعلى سمعة البلد ومؤسساته ودرجة الثقة في صناع قراراه وفي نظامه العدلي والقانوني ولذا فما حصل ليلة الأحد المذهلة لم يكن سوطا مسلطا على الفاسدين في الداخل فقط بل هو رسالة قوية للمستثمرين واللاعبين الدوليين بوجود مؤسسات سيادية تخضع ممارساتها للشفافية العالمية التي تتطلبها الممارسات الدولية وهي رسالة نحتاجها لتحقيق رؤية 2030 .
ما حدث ليلة الأحد هو خط البداية فقط لذا ولأننا نعيش في عالم مضطرب يموج بتغيرات متسارعة تؤكد على الربح المادي السريع ولا تقيم وزنا للقيم السامية لذا نحتاج في كل أوجه حياتنا المهنية والشخصية إلى تدعيم مناخ بمتاز بقدر عال من الشفافية والمحاسبة عبر بناء نظام قيمي مهني يساعد على تكريس مفاهيم المحاسبة والمسؤولية الذاتية وفي أي موقع.
أحد الخيارات (البسيطة في طرحها والعميقة في معناها كما أرى) هو ما طرحته جمعية البحرين النسائية للتنمية الإنسانية عبر مبادراتها المتعددة لإعادة تشكيل نظام القيم في عالم مادي استهلاكي عبر ما أسمته: القيادة الأخلاقية والذي عرفته الجمعية بأنه: القيادة التي تركز على القيم الأخلاقية في اتخاذ القرار وذلك: لفعل الشيء الصحيح في الوقت الصحيح من أجل غاية صحيحة.
القائد الأخلاقي هو من يبني سيرته على قاعدة رسولنا الكريم (أحب لأخيك ما تحب لنفسك ) وهو ما يجعلك لا تفعل لغيرك ما لا تحب أن يفعله بك غيرك. القائد الأخلاقي ليس بالضروة أن يكون مديرا نافذا أو قياديا في مكان رسمي أو فردا ذا مكانة عالية في المجتمع فقدرتنا على التأثير تعتمد على إرادتنا، وإيماننا بقوة المبادئ والثبات عليها وممارستها في حياتنا بغض النظر عن موقعنا الوظيفي أو الأسري أو الاجتماعي.
شكراً لمليكنا ولولي عهده الأمين الذين جعلونا نعيش فعلا لنرى: نعم نرى ونسمع ونعيش فعلا هذا اليوم المستحيل.