د. جاسر الحربش
الفاسدون كانوا أواني مستطرقة، لهم قنوات تصب من بعضها لبعضها، اسقني وأسقيك، أواني من تحت الأرض بجوار أموال الوطن وخزائنه. مشاريع بآلاف الملايين يصرف لها التمويل ولا تنفذ، أو تنفذ جزئياً ثم تتحول إلى أطلال، مشاريع لتصريف السيول تنتهي بحفر في الأسفلت ليس تحتها قنوات ولا أنابيب فتغرق المدن في أمطار لا تغرق شارعاً في مدينة أفريقية فقيرة. أنفاق تصرف عليها المليارات لتتحول إلى وديان مغمورة بالسيول ومصائد للسيارات. ترسيات بمبالغ فلكية تقترب من ميزانيات بعض الدول يودع أكثرها في الحسابات الشخصية وكسر عشري منها يدفع لمقاول من الباطن ليقوم بتنفيذ مشروع كرتوني ينهار بعد استلام المفتاح بشهور.
كان الشعب السعودي يصبر على ما ينتابه من الأزمات القولونية والحرقان وضيق التنفس بسبب علمه بالفساد المستشري ومعرفته برموز الفساد أو بعضهم على الأقل، أولئك الدببة السمان أو الخراتيت المكتنزة بالشحوم. ردود الأفعال الشعبية كانت دائماً الدعاء، اللهم ارزق قياداتنا البطانات الصالحة، ولم يكن الدعاء يستجاب. أواني الفساد المستطرقة كانت أعمق من أن يخرمها أو يقتلعها الدعاء، متغلغلة في كل الأماكن المهمة والقريبة من خزائن الأموال، ليست ملساء مصمتة بل متشعبة بتفرعات جانبية تلتقي مع بعضها البعض وتحتمي ببعضها ضد الشكوك والتحقيقات، تتبادل التزكية مثلما يشهد ذيل الثعلب له.
البعض منها كان في دوائر التخطيط والإعلان والترسيات والتسليم والاستلام، نال ثقة التعيين بناءً على تزكيات وشهادات زور متبادلة، والبعض يملك من الوسائط الإعلامية ما يتستر خلفه ويبث على مدار الساعة كل أنواع البرامج، بدءاً من القرآن الكريم والأحاديث النبوية ومقابلات الرموز الدينية والشرعية، وانتهاءً بمسابقات الهجن والشيلات ونقاشات الدكاترة والمثقفين والمثقفات عن قضايا التنمية وهموم الفنانين والفنانات والمباريات الرياضية.
كان المواطن يتحدث عن الفساد ويعرف بعض رموزه بالأسماء ويهز رأسه متخيلاً استحالة القضاء عليهم واقتلاعهم من الجذور، فيكتفي بالدعاء الصالح لولي الأمر وبالدعاء على الفاسدين. الآن بدأ عصر جديد في التعامل مع الفساد لاقتلاعهم من الجذور واستعادة ما خزنوه وهربوه من المنهوبات إلى خزينة الدولة لتسييلها في قنوات الوطن والمواطن. لم يعد الدعاء لولي الأمر بالبطانة الصالحة فقط، بل بأن يوسع الله له فيها ويحمي بطانته من احتمال بقاء بذور في التربة فتنبت من جديد.