اللواء الركن م. د. بندر بن عبدالله بن تركي آل سعود
ليس ثمَّة شك أن الجميع يدرك يقيناً أن الإرهاب والتطرف قديمان قِدم البشرية نفسها، فقد ظهرا مع أول ظهور للإنسان على وجه البسيطة، إذ قتل قابيل هابيل. وعلى مر التاريخ، تعرَّض حتى الرسل والأنبياء إلى مؤامرات عديدة، استهدفت حياتهم، طالت حتى خاتم الأنبياء والمرسلين، سيِّدنا محمد بن عبدالله، عليه أتم الصلاة وأزكى السلام، الذي أرسله الله رحمة للعالمين كافة؛ فضلاً عن تطور الأمر وتعقيده أكثر عبر مختلف الحقب بين أنظمة الحكم العديدة التي تعاقبت على السلطة في مختلف بلدان العالم، من إمبراطوريات، ممالك، سلطنات وأنظمة ديمقراطية وشمولية استبدادية.
ومع اختلاف الناس اليوم حول تحديد مفهوم الإرهاب، إلا أنهم قد أجمعوا في تقديري على إيجاز أسبابه في أهم ثلاثة أسباب جوهرية:
1- شهوة السلطة والسيطرة على العالم.
2- الاستيلاء على الثروة.
3- فرض أجندة متطرفة لإِحْكَام السيطرة على الناس من خلال الاستحواذ على عقولهم، نتيجة طبيعية للسببين السابقين.
وهنا قد يصعب أحياناً التعرف على هذا الخيط الرفيع الذي يفصل بين الإرهاب والتطرف، إلا على عين الباحث الحصيف المختص بدراسة هاتين الظاهرتين، اللتين أصبحتا اليوم تحدياً حقيقياً يهدد سلام العالم وأمنه واستقراره، فضلاً عن رفاه الناس، مستفيدتين من العلم والتقنية.
وفي تقديري أن هذا الإرهاب الأعمى والتطرف البغيض، صنيعة مؤامرة محترفة، طالما تحدثت عنها في كل مشاركاتي الإعلامية تقريباً، لا يُنْكُر وجودها إلا مصاباً بجنون العظمة، تستهدف منطقة الشرق الأوسط خاصة، لِمَا حباها الله من موقع إستراتيجي فريد، وخيرات وفيرة، وتنوع مذهل، كان يمكن أن يكون رافد خير، لولا هذا الإرهاب والتطرف.. يقوم عليها اقتصاد العالم. ومن يطالع التاريخ وتكالب الأمم علينا منذ بزوغ فجر الحضارة، لن يجد صعوبة في إدراك هذه الحقيقة التي يُصِرُّ كثير ممن يُحْسَبُون علينا على نكرانها، للأسف الشديد، وهم بإنكارهم هذا، يخدمون أجندة تلك المؤامرة عن قصد أو جهل، تحقيقاً لتلك المقولة الشهيرة للزَّباء ملكة تدمر، التي تنطبق على كل البلدان العربية التي تمزقها الحروب الأهلية اليوم: (بيدي.. لا بيد عمرو).
وعليه أرى أن ينصب جهدنا اليوم على محاربة ظاهرتي الإرهاب والتطرف، بعيداً عن المحاور الأخرى. ولكي تأتي مساعينا أُكلها، ينبغي علينا معرفة كيفية صناعة مخابرات الغرب وحكوماته وشركاته العابرة للقارات وعصابات المافيا والمخدرات وتجار السلاح وشركات الدعاية والإعلان والتنظيمات المتطرفة والوكالات التجارية، الذين اجتمعوا كلهم لترسيخ هذه (الفوضى الخلاَّقة) في منطقتنا لإضعافنا، ومن ثم الانقضاض علينا لنظل إلى الأبد تلك البقرة الحلوب التي لا يجف ضرعها. فقد أدرك أولئك سر اختلاف رؤانا، معتقداتنا، تقاليدنا، عاداتنا وأفكارنا وتباينها، فوظَّفوا كل ما تراكم لديهم من علم وخبرة على مدى عقود لاقتحام خصوصية عقولنا، في محاولة لإعادة صياغتها والسيطرة على أفكارنا بدافع الرغبة في إعادة تشكيل عقولنا وقولبتها في أسلحة حرب وقتل ودمار، مستخدمين مختلف الوسائل الظاهرة والخفية، عازفين على وتر المشاعر الدينية والتقاليد الاجتماعية والاختلافات الإثنية والعرقية، معتمدين أحياناً الفساد والتعذيب والتمثيل بالأجساد وامتهان الكرامة، وفي رأيي المتواضع، أن أهم وسيلتين لجأ إليهما أولئك في صناعة الإرهاب والتطرف اللذان اجتاحا منطقتنا هما:
1- غسيل المخ، الذي يغسل العقل حقاً من كل ما يحويه من أفكار ومعتقدات ومبادئ، فيجعله لوحاً أبيض نظيفاً، يكتب فيه من غسله ما يريد للسيطرة عليه. وإلا فخبروني بربِّكم: كيف لهؤلاء الدواعش، ومن تدعشن معهم، أن يقترفوا كل تلك الآثام من جز للرؤوس وسبي للحرائر وانتهاك للأعراض وحرق للزرع والنسل وتدمير للحضارة والبنية التحتية باسم الدين، في جرأة وقحة على الله ورسوله، إلا على جهلة أمثالهم قد غُسِلَت عقولهم؟
2- اعتماد الحرب التقنية التي جعلت مفهوم الحرب التقليدية التي تتقاتل فيها الجيوش وجهاً لوجه، شيئاً من مخلفات الماضي.
وعلى كل حال، كما يتعلم الناس في العلوم العسكرية: على من أراد تفادي الحرب أن يكون مستعداً لها. وعليه أجده لزاماً علينا اليوم أن نبذل كل طاقتنا ونوحِّد جهودنا في صناعة ترياق لسمومهم التي يرموننا بها صباح مساء، في إصرار عجيب على الاستحواذ على تفكيرنا.
ولا شك أن الجميع يدرك جيداً الآن أن الأمر شائك ومعقد، يتطلب جهداً هائلاً وتضافر الجميع للمحافظة على عقولنا التي هي آخر معاقل خصوصيتنا، فنواصل حياتنا على سليقتنا وفطرتنا التي فطرنا عليها خالقنا، ونتصرف وفق ما نؤمن به من قيم ومعتقدات وما يحقق مصالحنا ويصون وحدتنا؛ إضافة لضرورة إعداد الأداة اللازمة لمواجهة الإرهابيين والمتطرفين الذين استمرؤوا الشَّر، واجتثاث شأفتهم وقطع دابرهم عن بكرة أبيهم.
وعليه أرى أنه ثمَّة ترتيبات عديدة مهمة لا بد من اتخاذها، أوجزها في:
1- ضرورة تضافر جهود وزارات التربية والجامعات في العالم العربي والإسلامي لتأسيس مراكز بحث حقيقية جادة متخصصة، ليس لدراسة الظاهرة، بل لوضع الأسس الكفيلة بمحاربتها. واقترح هنا بكل تواضع، اعتماد تدريس علم الاجتماع السياسي في جامعاتنا ومعاهدنا العليا كافة، كأحد الجهود المهمة للتوعية اللازمة.
2- ترسيخ الجانب الفكري لدي شباب الأُمَّة، وتحصين عقولهم ضد الاختطاف، فالعقل هو حاسوب عضوي، ولهذا يمكن اختطافه مثل أي شيء آخر، كما أكد جون ألستون: (إذا لم تستطع التحكم في عقلك، فثمَّة من يقوم بالأمر نيابة عنك). وهذا هو الأمر عينه الذي حدث لسرحان سرحان، قاتل الرئيس الأمريكي جون كينيدي، الذي أُصيب بفقدان الذاكرة نتيجة غسيل مخِّه، كما أكد اختصاصي الطب النفسي، الدكتور بيرتارد دايموند، إذ قال سرحان في التحقيقات: (لا أعرف حقَّاً ما الذي حدث تحديداً، فكل ما أعرفه أنني كنت هناك، لقد أخبروني أنني قتلت كينيدي. صحيح أنني لا أتذكر ما الذي فعلته، غير أنني أعلم يقيناً، أنني لم أكن أنا ذلك الشخص الذي أعرفه عن نفسي... لقد كنت شخصاً آخر). وهذا هو حال كل الإرهابيين والمتطرفين الذين تعرضوا لغسيل مخ رهيب، طمس عقولهم، فجعل منهم آلة بكماء في يد المتآمرين.
وعلى كل حال، لا يمكن لهذا أن يتم إلا عن طريق تمكين شبابنا من المعرفة التي هي قوة وسلطة كما يقولون. واقترح هنا أيضاً، إنشاء دائرة مخابرات فكرية مركزية للتحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب، وتوفير تغذية راجعة تساعد المعنيين باتخاذ القرار الصحيح وفق المعطيات المتوافرة.
3- امتلاك التقنية اللازمة التي توفر لنا الأداة والمعدات والتدريب، فنحن أمام تطور مذهل في العلوم، تعتمد فيه برمجة العقل مستقبلاً على البرمجة الرقمية المباشرة. وتستبدل فيه البندقية والدبابة بالتقنية الإلكترونية التي تقصف العدو مباشرة بطاقة أسلحة إشعاعية كالموجات الكهرومغناطيسية التي تهاجم الجهاز العصبي المركزي، والحرارة والضوء وحتى الصوت الصاعق. فنستغني بالتالي عن جهد التحالف الدولي الذي يُعنى بأجندته الخاصة لترسيخ نفوذه، أكثر من اهتمامه بمساعدتنا في محاربة الإرهاب في منطقتنا.. فما حكَّ جلدك مثل ظفرك. والشواهد أكثر من أن تُحْصَى اليوم.
4- الاهتمام بخطابنا الإعلامي، والحد من الإثارة الصحفية التي تسهب في الحديث عن الطوائف الدينية، مما يدفعها لإدراج العنف، وحتى القتل، ضمن مخزون معتقداتها. فكما يقول جيم موريسون: (من يسيطر على الإعلام، يسيطر حتماً على العقل.. لا جدال في هذا البتَّة). فمعلوم أن الإعلام هو اليوم أكثر الكيانات نفوذاً على وجه الأرض.
نخلص إلى ضرورة توحيد الجهود والعمل بجد وعقل وفكر، فنحن نعيش اليوم في عالم يبدو عازماً بقوة على جعلنا نعيش جميعاً في دولة واحدة آمنة خانعة لمشيئته، تقرر كل شيء نيابة عنَّا، حتى أسلوب استهلاكنا، إرضاءً لاندماج الشركات العملاقة العابرة للقارات.