د.فوزية أبو خالد
كان لا بد لموضوع مقال اليوم من وقفتين نظريين على الرغم من تجنبي عادة التطرق لأي عملية تنظيرية في الكتابة بالصحف وإن كانت كتابة رأي. إلا أن المسؤولية التي استشعرها كمواطنة إزاء الحدث السياسي الجلل لهذا الأسبوع ومجرى التحولات التي يقود إليها أو يقترحها تقتضي فهم طبيعية التفاعل معه والتفكير بكيفية تفاعلية رشيدة تكون في مستوى الحدث نفسه فلا يبقى المواطن في مقعد المتفرج ولا يترك هذا الفعل السياسي غير المعهود في جرأته وسرعته على سابق تواريخ الإدارة السياسية للحكم السعودي وحده في التحولات. بما يجعلني مضطرة لتأطير نظري ولو بشكل بسيط وبعرض مختصر, آمل ألا يكون مخلاً.
على أنه قبل أن أسترسل في المقال لابد من التنويه بأنني وإن كنت أظن أنه يمكن قراءة الحدث السياسي الأخير مع متلازماته من الأحداث الأخرى التي تزامنت معه أو سبقته في الإطار النظري لما يسميه المفكر الإيطالي أنتوني جرامشي بالثورة الهادئة (passive revolution), وإن لم يكن بالمعنى الجرامشي الحرفي الذي يربطه ببعدين مختلفين عن هذا السياق وهو البعد المدني والبعد الزمني التراكمي وإنما بمعنى سلمية النقلات النوعية والكمية على جسامتها, فإن وقفتي لن تكون مع الحدث بل مع طبيعة التفاعل معه المتمثلة في الوقفتين التاليتين:
الوقفة الأولى
من الملاحظة بالقراءة يمكن القول أنه يسترعي انتباه المتابع الخارجي بشكل سافر عبر ما شاء من وسائل الإعلام التقليدي والجديد والمتابع الداخلي بشكل مقنع إما في المجالس الخاصة أو عبر منصات التواصل التقني بأسماء مستعارة أو رسائل مواربة إن كانت بأسماء أصحابها الحقيقين تلك الظاهرة المعروفة في نظريات العلوم الاجتماعية للاتصال بظاهرة «الفجوة المعرفية» بين السياسي وبين المجتمعي.
وقد تتجسد «الفجوة المعرفية» نظرياً ومحكاً في عدة أشكال بينة أومدغومة. ومن أمثلتها في مختلف تواريخ العمران البشري, فجوة المكان بين المعلومة وبين متاهة التنقل لحين بلوغها المستهدف بها, وفجوة الزمان.. كالوقت بين الحمام الزاجل والمرسل إليه (مما محتها اليوم الأجهزة الذكية), وفجوة السلطة بين ذات فردية عارفة وذات جمعية تابعة كالعلاقة الرأسية بين السياسي والمجتمعي. وعلى إختلاف تجسدات كل فجوة من فجوات المعرفة وكيفيات إنعكاسها على المجتمعات التي تعيش بها فإن من أوضح أمثلتها هي تلك الفجوة التي يصير فيها الواقع وكأن على السياسي عبأ أن يفصل ليلبس المجتمعي, وعلى السياسي أن يحدس ليتأهب المجتمعي, فالسياسي يشرع والشارع يمشي. أما التأطير النظري المطروح هنا فهو يعبر عن الفجوة المعرفية على المستوى الإعلامي فقط. فمع أنه من العادي بل المألوف في أشكال وليس فقط في تواريخ العمران البشري أن تكون هناك فجوة بين السياسي وبين المجمتعي، كتلك التي عادة ما تكون بين الحلم وبين الحقيقة أو بين المأمول وبين الحاصل أو بين القائم والمنشود بما قد يتبادلا فيه أدوار تقدم أحدهما على الآخر، فإن رصد الحالة السعودية غالباً ما يعطي مؤشراً شبه ثابت إن لم يكن ثابتا على الإطلاق في تقدم السياسي على المجتمعي إعلامياً بامتياز وبتفوق يحسب للسياسي الرسمي على ما عداه من قوى السياسة والاجتماع معاً. وهذا هو ما تسميه نظريات الاتصال تحديداً بـ«الفجوة المعرفية» وما يسمى في أدبيات علم الاجتماع السياسي بـ»فجوة السلطة» أي المسافة التي قد تفصل بين القمة والقاع في العلاقات الرئسية أي كانت ولو كانت بين زوجين.
وبناء على هذا التنظير فإنه غالباً ما تكون هناك فجوة معرفية تعكس تفاوتاً بين مصدر المعلومة وبين مُتلقي المعلومة
وهي فجوة نسبية أي أن هناك عدة متغيرات قد تتحكم في تحديد اتساعها أو ضيقها ومنها طبيعة المجتمع وطبيعة نظامه السياسي والاجتماعي بما فيه نسبة التعليم ومنسوب الحرية هذا إلى جانب طبيعة المعلومة.
وهذا مع الأسف مما يميع ويقلل من فرص النضج المطلوب والتهيئة المتوقعة والإعداد اللازم لكل الشروط التي لاغنى عنها لنجاح التحولات النوعية في التحالف مع المستقبل ومن أهمها بطبيعة الحال خلق بيئة سياسية واجتماعية وقانونية وقضائية وثقافية وإعلامية قادرة على «المواجهة النقدية قولاً وفعلاً مراقبة وتحرياً ومحاسبة» كالمتوقع والمأمول من مثالنا المفصلي لحملة محاربة الفساد. ومنها كذلك تشريع الشروط ووضع الضمانات العدلية لمحاكمة الفساد مع العمل على أن تكون مواجهة الفساد مواجهة مستدامة وليست مواجهة هبات في إدارة الأزمات كما كان الأمر قبل عدة أعوام في حمى الضنك أو سيول جدة.
الوقفة الثانية
يرجع إطارها التنظيري أيضاً لأحد مخرجات الفجوة المعرفية وهو ما يعرف في نظريات الاتصال أيضاً بمسمى الاستغراق. وفي هذا السياق هناك ما يسمى في تلقي الأخبار/ المعلومة بـ»الاستغراق العاطفي» وهناك ما يسمى بـ«الاستغراق العقلي». فإذا رجعنا للقراءة بالملاحظة فلن يكون من الصعب ملاحظة تلك الموجة العريضة من الاستغراق العاطفي التي يجري بها التعامل مع الأخبار. صحيح أن حرارة الاستغراق العاطفي قد تكون حالة مقبولة ومبشرة باستعداد جمعي للتغيير ولكن ذلك لا يغني ولا يعفي المواطن وصاحب الرأي من مسؤولية الاستغراق العقلي أو على الأقل التفكير الرشيد. وذلك بما يمكن معه تمكين المواطن من المشاركة في التصدي لحالة شرسة مثل حالة الفساد. فالتصدي للفساد ليست عملية إجرائية وقتية بل عملية تحولية ويجب أن تكون تكاتفية وجذرية في الشكل والمضمون السياسي والاجتماعي والثقافي في البنى والعلاقات والسلوك اليومي والبعيد من البيئة إلى القانون.