إبراهيم عبدالله العمار
يقول الكاتب العلمي نيكولاس كار: قراءة الكتاب نوع من التأمُّل.
هذه حقيقة! إنّ القراءة ليست تفريغاً وتصفية للعقل، بل ملءٌ وإتمامٌ. ينزع القارئ تعلّقَ انتباهه بالانهمار الخارجي للمُشغِلات اليومية ليركز بعمق على الجريان الداخلي للكلمات والأفكار والمشاعر. هذه هي خلاصة العملية العقلية الفريدة التي هي القراءة العميقة، والفضل يعود لتقنية الكتاب، والكتاب تقنية لم تكن موجودة سابقاً، وأتاح هذا الشذوذ العقلي الغريب في تاريخنا النفسي.
القراءة؟ شذوذ عقلي؟ كيف؟ لأنّ القراءة العميقة ليست عملية طبيعية للعقل البشري، فالمخ يميل لأن يركز على مُشغلات بصرية وسمعية كثيرة، والقراءة والكتابة تتطلب ترويض هذا الحصان الجامح.
إنّ اختراغ غوتنبيرغ للطباعة في القرن الخامس عشر أحدث ثورة من ناحية سرعة إنتاج الكتب وانتشارها وتوزيعها، وصارت أرخص، ولم يحتج الناس الآن النسّاخين الذين تخصصوا في كتابة الكتب لمن لم يعرف الكتابة (أسعارهم كانت عالية)، ولتوضيح تأثير اختراع الطباعة فإنه في عام 1483م في فلورنس طَبَعَ أحد المحلات 1025 نسخة من كتاب «حوارات» لأفلاطون بسعر 3 فلورن، قبل ذلك لم يكن هناك إلا أن يدوّن لك الناسخ ما تريد، وليخط لك كتاب أفلاطون هذا فسيطلب 1 فلورن وينتج لك نسخة واحدة فقط. انظر للفرق!
نزلت الأسعار بقوة وراجت المطبوعات الورقية. انتشرت الكتابة وأقبل عليها الناس ولم تَعُد مقتصرة على رجال الدين النصارى وفئة معينة من الناس. مع انتشار طباعة الكتب الهامة والأدبية، جاءت أشياء منحطة مثل روايات هابطة ونظريات مكذوبة وصحافة صفراء وبروباغاندا، لكن حتى هذه الأشياء كانت هامة، فقد كان عليها إقبال كبير، ودفعت الناس للقراءة. كان الناس يقرأونها بصمت وتأمُّل وتفكُّر، نفس الطريقة التي كانت مرتبطة بالانقطاع للعبادة في الصوامع .. تأمُّل وعمق. كان العقل الأدبي مقتصراً على صومعة أو جامعة .. الآن انتشر ودخل كل بيت.
لقد أُعيد تشكيل العالم. والفضل لهذا الاختراع العظيم: الكتاب.